القاهرة 10 يوليو 2014 الساعة 01:46 م
" أقتل جيدا وبسرعة ، أقتل كثيرا دفعة واحدة ، فليسقط عربيان
برصاصة واحدة ، وثلاثة إن استطعت ، لامفر من ذلك ، أقتل كثيرا
حتى نحصل في النهاية على عالم جميل هادىء ملك لنا .. "
من رواية " خربة خزاعة " للأديب الإسرائيلي ساميخ يزهار
والذي شارك في مذابح التطهير العرقي
وتبقى التفاصيل الأكثر وضوحا ، والأكثر دموية ، في تلك الشهادة الموثقة والحافلة بالأسماء والأرقام
والوقائع والتي قدمها الأكاديمي الإسرائيلي " إيلان يابه " في كتابه عن التطهير العرقي " تطهير العرق الفلسطيني " ـ الإصدار الأول عام 2008 ـ وهو يعد من أهم المؤرخين الإسرائيليين ، وكبيرالمحاضرين في علم السياسة بجامعة حيفا ، والمدير الأكاديمي لمعهد أبحاث السلام ، ورئيس معهد " إميل توما " للدراسات الفلسطينية في مدينة حيفا ، وهو ينتمي إلى جماعة صغيرة حققت اختراقا سياسيا ناجحا فيما يسميه المؤلف " المعركة حول الذاكرة في فلسطين " وهي جماعة " التاريخ الجديد " ويقوم هؤلاء المؤرخون الجدد بمراجعة الإدعاءات الصهيونية عن حرب عام 1948 ويذكر المؤلف في مقدمة كتابه، أن مراجعات هذه الجماعة ، نجحت في فضح زيف الإدعاء الإسرائيلي بأن الفلسطينيين تركوا بلادهم بمحض إرادتهم ، وقد استطاع هؤلاء المؤرخون تأكيد وقوع عدة عمليات طرد جماعي للسكان من القرى والمدن ، وفضح ارتكاب القوات اليهودية لعدد كبير من الجرائم والمذابح الوحشية . . ويسجل البروفيسور " إيلان بابه " في كتابه عن التطهير العرقي ، أن مجموعة من أحد عشر رجلا ، من القادة وضباطا من العسكريين الشبان ، عقدوا إجتماعا مساء الأربعاء 10 مارس 1948 في تل أبيب ، وفي هذا الاجتماع تم وضع اللمسات النهائية على خطة التطهير العرقي في فلسطين ، وفي نفس ذلك المساء صدرت الأوامر العسكرية إلى الوحدات في الميدان للاستعداد للقيام بعمليات ترحيل منهجية ومنتظمة للفلسطينيين من مناطق واسعة من البلاد ، وقد تضمنت تلك الأوامر وصفا مفصلا للأساليب التي يجب استخدامها لإجلاء السكان الفلسطينيين بالقوة ، ومن بين هذه الأساليب : بث الرعب والإرهاب على نطاق واسع ، وفرض الحصار على القرى ومراكز التجمع السكاني ثم قصفها ، وإشعال الحرائق في البيوت والممتلكات والبضائع ، والطرد ، وعمليات النسف ، وأخيرا زرع الألغام بين الأنقاض لمنع السكان المطرودين من العودة ، وقد وزعت على كل وحدة عسكرية ، قائمة بالقرى والضواحي المستهدفة في الخطة الأصلية التي أطلق عليها إسم " الخطة دي " وقد سميت بالعبرية "الخطة داليت" وهي في الأصل الخطة التي وضعتها عصابة الهاجاناه ، وقد سبقتها ثلاث خطط أوضحت بشكل غامض كيف كانت القيادة الصهيونية تفكر في وسيلة التعامل مع وجود العدد الكبير من الفلسطينيين الذين يعيشون على الأرض التي تطمع الحركة القومية اليهودية في تملكها ، أما الخطة الرابعة والأخيرة فقد تحدثت بوضوح ودون غموض عن المصير الفلسطيني ، إذ قضت بصراحة أن "على الفلسطينيين أن يرحلوا " .. ويستشهد المؤرخ الإسرائيلي بكلمات واحد من المؤرخين اليهود ، كان أول من أدرك معنى تلك الخطة ، وهو "سيمخا فلابان " الذي قال : إن الحملة العسكرية ضد العرب ، والتي تتضمن غزو وتدمير المناطق الريفية ، وضعت ضمن الخطة داليت على يد الهاجاناه ، وأن هدف تلك الخطة كان في الحقيقة ، تدمير المناطق الريفية والحضرية في فلسطين
يض
يف المؤرخ الإسرائيلي " إيلان بابه " : بأن تطهير الأرض كان على الدوام خيارا قائما بدءا من تيودور هيرتزل مؤسس الحركة الصهيونية حتىالقادة
الرئيسيين للمشروع الصهيوني في فلسطين، الأمر الذي يشرحه واحد من مفكري الحركة في عام 1917 وهو " ليو موتسكين " إذ يقول : إن همنا هو أن استيطاننا لفلسطين يجب أن يسير في اتجاهين : الاستيطان اليهودي في أرض إسرائيل ، وإعادة توطين عرب إسرائيل في مناطق خارج الدولة .. والحقيقة الواضحة هي أن الذين قاموا بطرد الفلسطينيين هم وافدون جدد على البلاد يشكلون جزءا من مشروع استيطاني يربط حالة فلسطين بتاريخ التطهير العرقي الاستيطاني في أمريكا الشمالية والجنوبية وأفريقيا واستراليا حيث ارتكب المستوطنون البيض جرائم مماثلة .. وقد بدأت الحركة الصهيونية في عام 1937 بقبول جزء متواضع من الأرض ، متظاهرة بقبول توصية بريطانية لتقسيم فلسطين إلى دولتين ، ثم ما لبثت في عام 1942 أن قامت بمحاولة لتطبيق استراتيجية أشد تطرفا وطالبت بجميع أراضي فلسطين ، ومهما تبدلت المساحة الجغرافية التي كانت الحركة الصهيونية تطمع فيها وفقا للظروف والفرص المتاحة ، ظل الهدف الأساسي دون تغيير ، وهو أن المشروع الصهيوني يتحقق فحسب من خلال قيام دولة يهودية نقية بدون " الأغيار " ، وفي نهاية ثلاثينات القرن الماضي ( 1930 وما بعدها ) ، وفي ظل حماية سلطات الانتداب البريطاني ، تمكن قادة الحركة من ترجمة رؤيتهم المجردة ليهودية الدولة الشاملة ، إلى خطط ملموسة ، وبدأت التجهيزات الللازمة للاستيلاء على الأرض بالقوة إذا لم يستطيعوا ذلك بالوسائل الدبلوماسية ، ومن هنا بدأ بناء منظمة عسكرية تتمتع بالكفاءة بمساعدة وتعاطف الضباط البريطانيين .. وكان من بين هؤلاء ضابط بعينه اسمه " أود تشارلز وينغيت " الذي أقنع القادة الصهاينة بأن على الدولة اليهودية الارتباط بنزعة عسكرية وبجيش لحماية المستوطنات اليهودية في بداية الأمر ، ثم ـ وهو الأهم ـ القيام بهجمات واعتداءات مسلحة ، تعتبر رادعا فعالا لأية مقاومة يبديها السكان المحليون الفلسطينيون ، وعند هذه النقطة ، يصبح الطريق مفتوحا لفرض التهجير عليهم في أقصر مدى زمنى .. وقام " وينغيت " بتحويل عصابة الهاغاناه لتصبح الذراع العسكرية للوكالة اليهودية ، وكانت تلك العصابة قد أنشئت عام 1920 ويعني اسمها العبري " الدفاع " ونجح الضابط البريطاني المتعاطف مع الصهاينة في إلحاق أفراد تلك العصابة بقوات الانتداب البريطاني ، وأخذ يدربهم على التكتيكات العسكرية ، والأساليب الإنتقامية ضد السكان المحليين !!
وكانت هناك حاجة لما هو أكثر من شن هجوم على القرى الفلسطينية ، تتمثل في ضرورة وضع خطط منهجية ، وتقدم بهذا الاقتراح مؤرخ شاب من الجامعة العبرية اسمه " بن صهيون لوريا " وكان آنذاك ، موظفا في الإدارة التعليمية التابعة للوكالة اليهودية ، وأوضح " لوريا " فائدة امتلاك سجل مفصل لجميع القرى العربية ، واقترح أن يتولى هذا العمل الصندوق الوطني اليهودي .. وقد بدأت المهمة الأولى بوضع خرائط للقرى ، ثم عين خبير في الطوبوغرافية لتسجيل معالم الأراضي ، واقترح هذا الخبير القيام بعملية مسح فوتوغرافي من الجو ، وتوجد الآن صور الخرائط الجوية في أرشيف الدولة الإسرائيلية وهي كل ما تبقى من تلك القرى بعد عام 1948 وقد عين أفضل المصورين المحترفين للعمل في المشروع وأقيم معمل للأفلام في منزل امرأة تدعى " مارغوت صادح " زوجة رئيس عصابة البالماخ .. وإمعانا في إخفاء معالم ذلك المعمل عن أعين سلطات الانتداب البريطاني بدأ العمل فيه تحت ستار شركة ري ، وما لبثت تلك السلطات أن علمت بما يجرى ولكنها فشلت في تحديد الموقع السري ، وتوصلت النتائج النهائية لكل من الجهود الطوبوغرافية وجهود الخبراء الصهاينة إلى وضع ملفات مفصلة لكل قرية من قرى فلسطين .. وفي نهاية ثلاثينات القرن العشرين أكتملت الملفات وتضمنت تسجيلا مفصلا عن الموقع الطوبوغرافي لكل قرية ، والطرق المؤدية إليها ، ومدى جودة الأراضي ، وينابيع المياه ، ومصادر الدخل الرئيسية، وتركيبة القرى الاجتماعية ـ السياسية ، والانتماءات الدينية فيها وأسماء المختارين " عمد القرى "، وعلاقة كل قرية بالقرى الأخرى ، وأعمار الرجال ( ما بين السادسة عشرة والخمسين ) وغير ذلك .. وتضمنت الملفات تصنيفا مهما لدرجة العداء للمشروع الصهيوني ، يتحدد التسجيل فيه بمستوى اشتراك القرية في ثورة 1936 وتم إعداد قائمة تضم جميع من شاركوا في الثورة وأسماء العائلات التي فقدت واحدا من أبنائها في النضال ضد البريطانيين ، وتركز اهتمام خاص على الذين ترددت إدعاءات بأنهم قتلوا يهودا ، وقد كلف عدد من أعضاء عصابة الهاغاناه بجمع المعلومات في رحلات استكشافية إلى القرى .. وفي عام 1940 أعيد تنظيم الملفات على يد "عزرا دانين " الذي لعب دورا أساسيا في التطهير العرقي ، وقد نجح في ضخ حجم هائل من المعلومات الإستخبارية في " مؤسسة ملفات القرى" التي تضمنت بعد عام 1943 وصفا مفصلا لمزارع المواشي والدواجن ، والأراضي المزروعة وعدد الأشجار في كل مزرعة ، ونوعيات الفواكة في كل بستان وحتى على الشجرة الواحدة ، ومتوسط مساحة الأرض عند كل عائلة وعدد السيارات ، وأسماء الحرفيين في كل قرية وخبراتهم ، وتفاصيل دقيقة عن كل قبيلة وانتماءاتها السياسية ، والتقسيم الطبقي الإجتماعي بين الوجهاء والفلاحين البسطاء ، وأسماء الموظفين العموميين في حكومة الانتداب .. وبعد أن بدأت عملية جمع البيانات في اكتساب قوة دفع ذاتية ، نجد إضافات جديدة في عام 1945 مثل شرح تفاصيل المساجد ن وأسماء أئمتها مع سماتهم الشخصية ، مثل وصف أحدهم بأنه " رجل عادي " بل إن تلك الإضافات شملت تحديدا دقيقا لغرف الجلوس داخل البيوت ، وعندما اقترب موعد إنهاء الإنتداب البريطاني ، أخذت عملية البحث منحي عسكريا مثل : عدد الحراس ( ويلاحظ المؤلف هنا عدم وجود حراس في معظم القرى ) ونوع وكمية الأسلحة لدى أهل القرى ، ( مرة أخرى يلاحظ المؤلف أنها كانت أسلحة قديمة ، وغالبا لم يكن لها وجود على الإطلاق ) وفي عام 1947 أجريت عملية التحديث النهائية على ملفات القرى ، وتركزت الجهود على إعداد قوائم بأسماء الأشخاص المطلوبين في كل قرية ، وفي عام 1948 استخدمت القوات اليهودية هذه القوائم في عمليات البحث والإعتقال التي كانت تقوم بها بمجرد احتلالها للقرية ، وتشمل تلك العمليات جمع رجال القرية في صف واحد ثم يتم التعرف على من وردت أسماؤهم في القوائم بواسطة العميل الذي وشى بهم والذي يغطي رأسه بقناع به ثقبان للعينين حتى لا يتعرف أهل القرية عليه ، وبعد ذلك يتم إطلاق الرصاص على هؤلاء الرجال في نفس الموقع .. وكان معيار إدراج أسماء مثل هؤلاء الرجال هو اشتراكهم في الحركة الوطنية الفلسطينية ، أو ارتباطهم بعلاقات وثيقة مع زعيم هذه الحركة المفتي الحاج أمين الحسيني ، أو اشتراكهم في النضال ضد البريطانيين واليهود ، وهناك أسباب أخرى لإثبات أسماء البعض في تلك القوائم ، وهي مجموعة من المزاعم مثل " معروف عنه أنه سافر إلى لبنان " أو سبق القبض عليه من قبل السلطات البريطانية لكونه عضوا في لجنة القرية الوطنية !!
ويوثق الأكاديمي الإسرائيلي " إيلان بابه " حقائق التطهير العرقي الذي نفذته العصابات الصهيونية المسلحة قبل النكبة في 1948 وفي إطار إستراتيجية إسرائيلية متكاملة ، استهدفت أن تكون فلسطين لليهود حصرا ، عبر إخلائها من أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين ، وقد غاص الدكتور" بابه " في أضابير وملفات إسرائيلية سرية ومحظورة ، واستطاع بدأب العالم الباحث أن يطلع على جوانب من مذكرات لاعبين أساسيين في الحركة الصهيونية فرضت عليها السرية التامة ، ومنع نشرها .. وفي الخلفية التاريخية للتطهير العرقي في فلسطين ، يبرز القرار رقم 181 الصادر عن الأمم المتحدة والقاضي بتقسيم فلسطين ، وأثره التدميري على فلسطين التاريخية ، ويرى فيه الدكتور " إيلان بابه " جريمة حقيقية ارتكبت بحق الفلسطينيين الذين تعرضوا لحملة تطهير صهيونية استهدفت القضاء على مليون نسمة منهم على الأقل ، حيث كان المؤسسون الأوائل على تمام الإقتناع بأن الدولة التي يسعون لإقامتها لن تكتب لها الحياة إلا إذا كان 80 % من سكانها من اليهود .. ويقول " إيلان بابه " : أن فلسطين كانت بحق بلدا عربيا بنهاية عهد الانتداب البريطاني بالرغم من سياسة بريطانيا المنحازة للخطط الصهيونية وتنامي الأقلية اليهودية ، وكان معظم الأراضي الزراعية تقريبا في فلسطين ملكا للعرب لا للمهاجرين اليهود الذين يمتلكون فقط 5,8 % في عام 1947 ، ومع أن الزعماء الصهاينة أخذوا يحثون هؤلاء المهاجرين على الإقامة في المناطق الريفية ، إلا أن القادمين الجدد فضلوا المدن والبلدات ، ونتيجة لذلك كانت المستوطنات الصهيونية في المناطق الحضرية بعيدة عن بعضها ، بل وكانت في بعض المناطق مثل الجليل في الشمال والنقب في الجنوب ، جزر منعزلة في الريف الفلسطيني المحيط بها .. وكانت تلك العزلة تعني أن تلك المستوطنات أقيمت مثل الثكنات العسكرية لا مثل القرى ، وصممت على أساس الإعتبارات الأمنية لا الإقامة فيها ، مما جعلها مناقضة تماما لبراح المساحات المفتوحة للقرى الفلسطينية التقليدية وبيوتها الحجرية الطبيعية ومنافذها المناسبة دون عائق نحو الحقول المجاورة وبساتين الفواكه وأشجار الزيتون الملتفة حولها .. لقد كان تقسيم فلسطين حلا بيريطانيا في الأساس ، ثم أصبح جوهر السياسة اليهودية منذ عام 1937 ، غير أن بريطانيا قدمت عدة خيارات أبرزها إقامة دولة ثنائية القومية ، ولكن اليهود رفضوا الاقتراح ، وهناك اقتراح آخر بإقامة دولة كانتونات مثل النموذج السويسري ولكن الطرفين رفضاه ، وفي النهاية امتنعت بريطانيا عن البحث عن حل وتركت القضية الفلسطينية في يد الأمم المتحدة في فبراير 1947 ، ومع دعم بريطانيا لزعماء الحركة الصهيونية أصبح التقسيم هو إسم اللعبة الجديدة مع استئصال مصالح الفلسطينيين بالكامل ، ومن الواضح أن الأمم المتحدة ، بقبولها قرار التقسيم ، قد تجاهلت تماما التركيبة العرقية لسكان فلسطين ، ولو كانت قررت أن تجعل الأراضي التي استوطنها اليهود في فلسطين متناسبة مع حجم دولتهم ، لما منحتهم أكثر من عشرة في المئة من البلاد ، ولكن المنظمة الدولية قبلت المزاعم القومية للحركة الصهيونية بشأن فلسطين ، بل وأكثر من ذلك سعت إلى تعويض اليهود عن "الهولوكوست " النازية في أوروبا ، ونتيجة لذلك تم تسليم اليهود أكثر من نصف أراضي فلسطين كلها ، بينما لم يكونوا يمتلكون إلا أقل من ستة في المئة ولا يمثلون إلا ثلث مجموع السكان !! ولكن بقى هاجس الوجود الفلسطيني الغالب فوق أرضهم يمثل أكبر تحدي أمام الأطماع الصهيونية .. وفي يوم 3 ديسمبر 1947 ألقى " بن جوريون " خطابا أمام جمع من كبار أعضاء حزبه ( حزب الماباي ) كشف فيه بوضوح عن كيفية التعامل مع الحقائق المرفوضة في قرار الأمم المتحدة ، ومن بين ما جاء في خطابه قوله : " يوجد 40 % من غير اليهود في المناطق التي خصصت للدولة اليهودية وهذه التركيبة لا تشكل أساسا صلبا لدولة يهودية ، وعلينا مواجهة هذه الحقيقة الجديدة بكل ما تحتويه من قسوة وتفرقة ، إن مثل هذا التوازن الديموغرافي يختبر قدرتنا على الحفاظ على السيادة اليهودية، وإن دولة بها 80% من اليهود على الأقل هي وحدها الدولة المستقرة والقابلة للحياة ، وزعم بن غوريون أن الفلسطينيين داخل تلك الدولة سوف يكونون طابورا خامسا ، ولذلك يمكن اعتقالهم بشكل جماعي أو طردهم ، ومن الأفضل طردهم !! في ذلك الوقت بدأت القيادة الصهيونية في دراسة استكمال الوسائل الفعلية الملموسة لطرد الأعداد الهائلة من السكان ، فقد كان يعيش على أراضي الدولة اليهودية المقبلة مليون فلسطيني في أوائل ديسمبر 1947 من بين مجموع السكان الفلسطينيين البالغ مليونا وثلاثمائة ألف نسمة بينما كان المجتمع اليهودي نفسه يمثل أقلية من 600 ألف فرد .. وكان بن غوريون قد تابع شخصيا شراء سلاح مدمر سرعان ما استخدم في حرق حقول وبيوت الفلسطينيين ، وهو السلاح المسمى قاذف اللهب ، وقد رأس عالم الكيمياء الأنجلو ـ يهودي " ساشا غولدبرغ " مشروع شراء السلاح المدمر ، ثم بعد ذلك تصنيع هذا السلاح في معمل في لندن أولا ، ثم في " معمل رحوفوت" جنوب تل أبيب ، الذي أصبح إسمه معهد وايزمان في خمسينيات القرن العشرين .. وقد كان مشروع قاذف اللهب جزءا من وحدة كبيرة قامت بأبحاث الحرب البيولوجية تحت رئاسة عالم كيمياء حيوية هو "إفراييم كاتزير" الذي أصبح رئيسا لإسرائيل ، والذي كشف في ثمانينات القرن الماضي ـ في زلة لسان ـ عن امتلاك الدولة اليهودية أسلحة نووية ، وقد بدأت الوحدة البيولوجية التي أدارها هو وأخوه "أهارون " في شهر فبراير 1948 ، وكان هدفها الأساسي إنتاج سلاح يصيب الناس بالعمى .. وقال كاتزير بعد ذلك لبن غوريون : " نحن نجري الاختبارات على الحيوانات ولم تتعرض للموت ولكنها أصيبت فقط بالعمى ، وبإمكاننا إنتاج 20 كيلو غراما يوميا من تلك المادة " .. وفي شهر يونيو 1948 اقترح كاتزير استخدام هذا السلاح ضد البشر !! وينتقل المؤرخ الإسرائيلي إلى متابعة التفاصيل الدقيقة لتنفيذ الخطة الصهيونية للتطهير العرقي الشامل في فلسطين التي عرفت باسم " الخطة داليت " ويقول إنها حسمت مصير مليون فلسطيني ، حيث اعتبر القادة الإسرائيليون أن عمليات التطهير العرقي هي أداة الحركة الرئيسية لديهم ، وخاصة على طريق تل أبيب ـ القدس ، وشملت هذه الخطة ، ضمن أهدافها العديدة ، القضاء على جميع سكان القرى الفلسطينية التي تشغل مواقع استراتيجية أو يتوقع أن يبدي أهلها نوعا من المقاومة ..
كان جوهر " الخطة داليت " هو طرد سكان جميع القرى في الريف الفلسطيني عبر إحراقها وبث الألغام حولها وقتل سكانها ، وهو السيناريو الذي تم تنفيذه حرفيا في غالب الأحوال ، وفقا لما ورد في مسودة الخطة ، وقد انتهى إعدادها في الأيام الأولى من شهر مارس 1948 ، وقد تضمنت المسودة بعض وسائل التطهير العرقي على الوجه التالي : " يمكن تنفيذ العمليات بالأسلوب التالي : إما بتدمير القرى وذلك بإشعال النار فيها أو بقصفها بالقنابل ، وزراعة الألغام في أنقاضها ، وخاصة في تلك المراكز السكانية التي تصعب السيطرة الدائمة عليها ، أو بعمليات تمشيط وحصار وفقا للتعليمات التالية : تطويق القرى وإجراء حملات تفتيش داخلها ، وفي حالة وجود مقاومة يجب إبادة القوة المسلحة إبادة تامة وطرد السكان إلى خارج حدود الدولة " .. وكانت الأوامر الصادرة إلى الوحدات تتضمن تفاصيل أكثر تحديدا ، فنجد مثلا أن البلاد قسمت إلى مناطق وفقا لعدد الكتائب ، حيث تم تقسيم الألوية الرئيسية الأربعة لعصابة الهاغاناه إلى اثنتي عشرة كتيبة لتسهيل تنفيذ الخطة ، وتسلم قائد كل منها قائمة بالقرى أو الضواحي التي ينبغي احتلالها وتدميرها وطرد سكانها ، مع تحديد دقيق للتواريخ ، كما ثبت استحالة تنفيذ الخطة في عدد من القرى وفقا للإطار الزمني المطلوب ومؤدي ذلك أن بعض القرى الساحلية المقرر احتلالها في شهر مايو لم تدمر حتى شهر يوليو ، كذلك وجدت الهجمات الصهيونية المتكررة صمودا فلسطينيا في قرى بمنطقة " وادي أرا " الذي يصل الساحل بمرج ابن عامر والعفولة ، ولكنها كانت استثناء ، إذ أن ما تم في المحصلة النهائية هو تدمير 531 قرية و11 ضاحية وبلدة حضرية وطرد سكانها !! وبينما كانت الخطة الرسمية تعطي سكان القرى خيار الاستسلام ، كانت الأوامر العملياتية لا تستثني أية قرية لأي سبب ، وبهذا تحولت الخطة إلى أوامر عسكرية بتدمير القرى واختلفت التوقيتات وفقا للموقع الجغرافي ، فكان على " لواء الكسندروني " اكتساح الساحل بما فيه من عشر قرى في نهاية إبريل ، ووصلت أوامر التطهير العرقي في شرق الجليل إلى " لواء غولاني " يوم 6 مايو 1948 بينما وقف المسؤولون البريطانيون ومندوبو الأمم المتحدة موقفا لا مباليا ، حتى أن القدس بدت مدينة للأشباح ، ولم يكتف البريطانيون بذلك الموقف السلبي ، ولكنهم لعبوا دورا شيطانيا عندما جردوا العدد الضئيل من السكان الفلسطينيين في بعض ضواحي القدس من سلاحهم ووعدوهم بحمايتهم من الهجمات اليهودية !! وفي شهر أبريل من ذلك العام 1948 كانت مجالات الأعمال العسكرية مازالت واسعة النطاق حيث تعرضت قرى عديدة لمصير أسوأ من الطرد وأصبحت ضحية المذابح .. وفي بعض القرى المتاخمة للمراكز الحضرية اتبعت القوات اليهودية سياسة المذابح لدفع سكان المدن والبلدات إلى الهرب ، مثال ذلك ما حدث لقرية نصر الدين قرب طبرية ، وقرية عين الزيتون بالقرب من صفد ، وطيرات حيفا قرب مدينة حيفا ، ففي هذه القرى الثلاث أعدمت عصابة الهاغاناه جميع رجالها بدءا من العاشرة حتى الخمسين من العمر لإرهاب سكان القرى والمدن المجاورة .. وتوضح تفاصيل الجرائم التي يتحدث عنها شهود العيان أن مرتكبيها كانوا يكبلون أيدي وأرجل الضحايا بالسلاسل ثم يقتلونهم بدم بارد ، وعندما كان بعض السكان يخرجون من مخابئهم حاملين رايات بيضاء كان أفراد العصابة اليهودية يقتلونهم عن آخرهم .. وبعض هذه المشاهد وردت تفاصيلها الدموية في كتابين لاثنين من عصابتي الهاغاناه وبالماخ : الكتاب الأول هو " الفلسطينيون .. التاريخ والحاضر " لهانز ليبريشت الذي يقول : في نهاية مايو 1948 تلقيت أمرا من الوحدة التي أعمل بها لبناء محطة ضخ مؤقتة ، بتحويل مجرى جدول مياه في القرية المهجورة عين الزيتون ، وإمداد الكتيبة بها ، وكانت القرية قد دمرت عن آخرها ، وتناثرت جثث أهلها بين الأنقاض ، وقد وجدنا العديد من جثث النساء والأطفال والرضع بجوار المسجد المحلي ، وأقنعت الجيش بإحراقها .. والكتاب الثاني "بين الأغلال " لمجندة في عصابة بالماخ " نتيفا بت يهودا " وكانت موجودة في تلك القرية أثناء عمليات الإعدام ، وقد فضلت أن تذكر ـ بطريقة روائية ـ 
وصفا بشعا للطريقة التي أعدم بها رجال القرية وهم مقيدون بالأغلال والذين يقدر عددهم بعدة مئات !!
وإذا كانت الشهادات التاريخية قد ظهرت في وقت متأخر من جانب شهود عيان ، وجنود إسرائيليين من الذين شاركوا في المذابح ، فإن إحدى هذه الشهادات جاءت مبكرا في عام 1949 للأديب ساميخ يزهار ، الذي شارك عمليات الإبادة والتطهير العرقي كجندي ، ثم قرر بعدها أن يضع تجربته في رواية قصيرة بعنوان " خربة خزاعة " وهي اسم إحدى القرى الفلسطينية التي تعرض سكانها لجريمة التشريد تحت إرهاب السلاح ، وكان الإعتبار الحاكم لتوجيهات القيادة وسلوك الجنود ، هو إخلاء الأرض من سكانها بضراوة ، لإقامة الدولة اليهودية .. والرواية التي نشرت في العام 1949 فور إنتهاء المعارك ، ترسم مشهدا دمويا ومنذ اللحظة الأولى التي تلقت فيها الوحدة التي يعمل بها " يزهار " أمرا بالتوجه إلى قرية خربة خزاعة وطرد سكانها خارج الحدود .. ويصف الروائي ساميخ يزهار حال القرية الخالية من الرجال المقاتلين ، ولاتوجد بها قطعة سلاح واحدة ، وغالبية سكانها من المسنين والنساء والأطفال ، وقد استسلموا لأوامر الجنود الإسرائيليين ، ومع مشاعر الرعب والفزع من الرصاص الذي ينطلق في اتجاههم ، ومن الحرائق التي قام الجنود بإشعالها في بيوتهم ، إلى أن تم تحميلهم على لوريات اتجهت بهم صوب الحدود لتلقيهم في العراء خارجها مشردين .. ويقول " يزهار" في روايته : من يذكر أنه كانت هنا قرية عربية تسمى خربة خزاعة ، لقد طردنا أهلها وورثناها منهم ، لقد جئنا إليها ، أطلقنا النار، وحرقنا وفجرنا ودفعنا وطردنا ، وكانت الوحشية في سلوك الجنود ودوافعهم ، تنفيذا لأوامر ، أقتل جيدا وبسرعة ، أقتل كثيرا دفعة واحدة ، فليسقط عربيان برصاصة واحدة ، وثلاثة إن استطعت ، لا مفر من ذلك ..القتل بدم بارد وبدون أي تردد ، مع الإكثار من القتلى والإقتصاد في الذخيرة !! وإذا كانت الشهادة التي قدمها " ساميخ يزهار " تتضمن وصفا لمشاعر اللامبالاة لدى الجنود بصرخات الأمهات والأطفال ، وتنفيذ المهمة بأعلى درجة من الوحشية ، فإنه يعرض أيضا وصفا دراميا لعمليات التعبئة ، والتلقين الأيديولوجي الصهيوني الذي تلقاه الجنود قبل دخول القرى والمدن الفلسطينية : " اقتل جيدا يا ابننا العزيز .. اقتل بملء ذراعيك ، اقتل من أجلنا بقدر الخير الذي أعطيناه لك عندما ربيناك صغيرا ، اقتل بوفرة ، اقتل كثيرا حتى نحصل في النهاية على عالم جميل هادىء ملك لنا .. لا تتردد واقتل .. اقتل .. اقتل " ..
وسلطات الإنتداب البريطاني كانت تعلم بخطة داليت للتطهير العرقي ، وأعلنت ـ بعد وضع الخطة ـ أنها لم تعد مسئولة عن حفظ القانون والنظام في المناطق التي مازالت قواتها تتواجد فيها ، ثم تقرر أيضا حصر نشاطها في حماية تلك القوات ، وكان معنى هذا تحويل حيفا ويافا وكل المنطقة الساحلية بينهما إلى مساحة مفتوحة تنفذ فيها القيادة الصهيونية خطة داليت دون عائق أو مواجهة مع الجيش البريطاني !! وقد ساعد البريطانيون عملية التطهير العرقي بوسائل مباشرة أخرى بإمداد القيادة اليهودية بصكوك الملكية والبيانات الحيوية الأخرى التي كانوا قد صوروا نسخا منها قبل تدميرها .. وصحيح أن العمليات الإرهابية للتطهير العرقي ، وطرد أصحاب الأرض ، تستند إلى قوة عسكرية وحشية ، ولكن الأوراق البيروقراطية لا تقل أهمية ، لأنها لا تتيح فقط تجريد الفلسطينيين من ممتلكاتهم، بل تؤدي كذلك إلى إعادة تمليك الغنائم للغير !! وهناك دور مشبوه آخر للأمم المتحدة بالغياب المتعمد ، رغم أنه كان على هيئة الأمم المتحدة أن تتواجد في الموقع وفقا لقرار التقسيم ، فضلا عن أن القرار الصادر في 29 نوفمبر 1947 قد تضمن أوامر ملزمة في وضوح كامل من بينها : تعهد الأمم المتحدة بمنع أية محاولة من أي جانب لمصادرة أراضي يمتلكها مواطنون من الجانب الآخر ، أو مجموعة وطنية أخرى، سواء كانت الأراضي مزروعة أو غير مزروعة !! وهناك إضافة أخرى في منتصف عام 1949 حين تحركت الأمم المتحدة في محاولة للتعامل مع نتائج " الخطة داليت " والممارسات الإرهابية بعد الإحتلال الإسرائيلي 1948 ، فكان أول قرارات الأمم المتحدة " المضللة " إنشاء وكالة خاصة للاجئين الفلسطينيين بدلا من تكليف المنظمة العالمية للاجئين .. وكانت إسرائيل والمنظمات اليهودية الصهيونية وراء قرار إبعاد المنظمة العالمية للاجئين من الصورة بالرغم من أنها هي نفس المؤسسة التي ساعدت اللاجئين اليهود في أوروبا في أعقاب الحرب العالمية الثانية ، وحرصت المنظمات الصهيونية على منع أي شخص من الربط أو حتى المقارنة بين الحالتين !! وهكذا ظهرت إلى الوجود وكالة غوث وتشغيل اللاجئين ( الأونروا ) في عام 1950 وهي لا علاقة لها بعودة اللاجئين بناء على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194 في 11 ديسمبر 1948 ، ولكن مهمتها ببساطة هي توفير الوظائف وتقديم المساعدات المالية لنحو مليون لاجئ فلسطيني فقط ، مسجلين لديها بعد أن انتهى بهم الأمر إلى المخيمات ، كذلك كلفت الوكالة ببناء مخيمات دائمة لهم وإنشاء المدارس وفتح مراكز طبية ، كان القصد من الأونرو عامة الإهتمام بمصالح اللاجئين اليومية !!
وقد أصبح عدد الفلسطينيين الذين يعيشون في الداخل ـ إحصائية 2009 ـ 5 ملايين تقريبا ( 1,5 مليون في غزة ـ 2 مليون في الضفة والقدس ـ 1,7 مليون في إسرائيل ) وهو تقريبا نفس عدد اللاجئين في الدول العربية ، والذين عاشوا منذ عام 1948 في ( فنلندا ـ كرواتيا ـ النرويج ) وهو أكبر من عدد سكان بعض الدول الإفريقية مثل ( توجو ـ سيراليون ) ويكون تقريبا أيضا مثل عدد الإسرائيليين باستثناء الفلسطينيين منهم ( 7 ملايين ـ 1,7 مليون ) .. ووفقا لبيانات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني ، فإن 66 % من الفلسطينيين الذين كانوا يقيمون في فلسطين عام 1948 تم تهجيرهم ، وأن 5.1 مليون لاجىء مسجلون لدى الأمم المتحدة ، وأن 30 % من السكان في الضفة الغربية ، و67 % في قطاع غزة من اللاجئين .. ومن الناحية القانونية فإن حق العودة الذي أعطى للاجئي عام 1948 بالقرار رقم 194 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 11/12/1948 لم ينله أي تغيير وهو حق غير قابل للتصرف بل دعمه قانونيا حكم محكمة العدل الدولية في شأن عدم قانونية بناء الجدار العازل بتاريخ 9/7/2004 ، وكان اتفاق كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل عام 1978 قد تناول في الجزء المخصص عن الأرض المحتلة تقسيم مشكلة اللاجئين إلى قسمين حسب تاريخ اللجوء ، فأبقت على تسمية المهجرين من عام 1948 بالمهاجرين Refugees وأطلقت إسما جديدا على اللاجئين عقب حرب 1967 وهو النازحين displaced ، وانشقت عن مؤتمر مدريد عام 1991 لجنة خاصة باللاجئين بناء على طلب من مصر ، وحاولت الولايات المتحدة وإسرائيل أن تضم إليها اليهود المغادرين للبلاد العربية وكذلك لاجئون آخرون في الشرق الأوسط !! ولم يتناول اتفاق أوسلو عام 1993 موضوع اللاجئين من قريب أو بعيد وأرجأه مع بعض المسائل صعبة الحل إلى ما بعد الفترة الانتقالية لمدة 5 سنوات لتناقش ضمن مواضيع الحل النهائي ( اللاجئون ـ الحدود ـ المستوطنات ـ القدس ـ المياه ) والتي لم تناقش أبدا ، وأنشأ الاتفاق لجنة رباعية لعودة النازحين لم تتفق حتى على مجرد تعريف النازح ، بعد أربع سنوات من المفاوضات ( ملاحظة : زاد إجمالي عدد المستوطنين بنسبة 63 % منذ اتفاقية أوسلو التي تركت ملف المستوطنات في المرحلة النهائية من المفاوضات !! ) .. وزاد من قلق المهاجرين " اللاجئين " في تضاؤل حق العودة ، الوثيقة التي عرفت باسم ( وثيقة أبو مازن ـ بيلين ) وبموجب هذه الوثيقة اتفق على إبقاء جميع المستعمرات في الدولة الفلسطينية ، في حال لم يتم تعريفها كبلدات لليهود فقط يحافظ فيها المستوطنون على مواطنتهم الإسرائيلية ، أما عودة اللاجئين الفلسطينيين فلا تكون إلى ديارهم التي هجروا منها ، وإنما إلى الدولة الفلسطينية ، في حين يتم تقسيم القدس من الناحية الإدارية ، ويتم تأجيل الحسم النهائي في السيادة عليها ، مع ضمان أن يكون رئيس البلدية يهوديا !! وتزايد أيضا قلق المهاجرين بسبب ما عرف بـ( وثيقة ياسر عبد ربه ـ بيلين ) حيث جرت محاولة اشتهرت بوثيقة جنيف ـ البحر الميت ـ بتاريخ 1/12/2004 التي تصيغ مسودة اتفاقية الوضع الدائم ، وسميت " وثيقة بيلين ـ عبد ربه " والأول وزير عدل إسرائيلي سابق ، والثاني وزير إعلام فلسطيني سابق ، وبالضرورة الاثنان لا يخرجان عن موقف مؤسستيهما الرسميتين وإن كانا خارج المؤسستين ، حيث شطبت الوثيقة حق العودة ، ليصبح على اللاجئين اختيار سكن دائم ، فأمامهم خياران : إما العودة لدولة فلسطين ، أو الاندماج في دولهم المضيفة أو الهجرة إلى دولة ثانية ( أوروبية أو أمريكية ) إلى جانب التعويض المادي عن أراضيهم !! وكان الضعف قد شاب وضع اللاجئين في مبادرة السلام العربية ، عن موقعهم في قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194 حيث نصت المبادرة العربية على ( التوصل إلى حل عادل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين يتفق عليه وفقا لقرار الجمعية العامة رقم 194 ) ولم تنص المبادرة على تنفيذ القرار بل تركته نتيجة المفاوضات لموافقة إسرائيل .. ويأتي تعهد الرئيس الأمريكي الأسبق " بوش الإبن " لرئيس الوزراء السابق شارون بتاريخ 14/4/2004 والذي وافق عليه الكونجرس بمجلسيه ( النواب ـ الشيوخ ) بأخذ الأوضاع الحالية في الحسبان عند صياغة الحل النهائي ( وهي عدم العودة لحدود 1967 ، أو عودة اللاجئين ) وبالطبع فإن التعهدات الأمريكية كانت لها صفة الثبات ، بل طالتها مزايدات من الإدارات الأمريكية المتعاقبة !!
وربما لم يلتفت أحد بالقدر الكاف إلى معاناة الفلسطينيين داخل الخط الأخضر ، والذين لم يغادروا الوطن ويحملون بطاقة الهوية الإسرائيلية ، ويبلغ عدد سكان عرب إسرائيل 1,7 مليون نسمة ويشكلون نحو 24 % من مجموع السكان ( إحصائية عام 2008 ) ويبلغ عدد العرب المسلمين حوالي مليون نسمة معظمهم من السنة ، ويقطن معظمهم في قرى ومدن صغيرة غالبيتهم في شمال إسرائيل ، أما العرب البدو وهم أيضا من المسلمين يبلبغ عددهم حوالي 170 ألف نسمة ينتمون إلى حوالي 30 عشيرة ، ويعيش معظمهم في مناطق متباعدة في جنوب إسرائيل ، وكذلك العرب المسيحيون يبلغ عددهم حوالي 117 ألف نسمة يعيش معظمهم في المدن مثل الناصرة ، وشفا عمرو، وحيفا ، ومع أن هذه المجموعة تضم فئات متعددة إلا أن غالبيتها يتألف من الروم الكاثوليك ، والروم الأرثوذكس ، والرومان الكاثوليك ، ثم الدروز يبلغ عددهم حوالي 113 ألف نسمة ينطقون بالعربية ويعيشون في 22 قرية في شمال البلاد ، ويشكل أبناء الطائفة الدرزية فئة ثقافية واجتماعية ودينية منفردة والعقيدة الدرذية محاطة بالسرية ، ويوجد "الشركس " ويبلغ عدد السكان 3 آلاف نسمة ، يعيشون في قريتين في شمال البلاد ، والشركس مسلمون سنيون ، ولكنهم لا ينحدرون من أصل عربي ، وليست لهم نفس الخلفية الثقافية التي ينتمي إليها العرب المسلمون عامة .. ويعاني عرب 48 تحت حكم إسرائيل ونظامها العنصري ، ولا يمكن رد هذه المعاناة بشكل سطحي إلى مجرد العنصرية الصهيونية فحسب ، بل إنها معاناة ترجع في حقيقتها إلى حزمة معقدة من الدوافع الدينية والمخاوف الإجتماعية والسياسية لدى اليهود تجاه العرب ، فبالرغم من أن عرب 48 يمثلون نحو 20 % من إجمالي حاملي بطاقات اليهودية الإسرائيلية ، وبالرغم من أن النسبة الأكبر من عرب 48 قد ولدوا كمواطنين إسرائيليين ، وليس لديهم أي إثباتات هوية سوى تلك التي منحتها لهم الحكومة الإسرائيلية ، إلا أن المجتمع الإسرائيلي ينظر لعرب 48 كأعداء ، وكقنبلة موقوتة في قلب إسرائيل يمكن أن تنفجر في أي لحظة ، وليسوا كمواطنين على نفس الأرض التي يستوطنها اليهود .. أما الدافع الحقيقي الأول لمعاناة العرب فينبع من العقيدة اليهودية نفسها التي لا تعترف بالآخر ولا تقيم له وزنا ، و" الجويم " أو الآخر في العقيدة اليهودية ليسوا إلا بهائم خلقت لخدمة بني إسرائيل ، دماؤهم حلال ، وأموالهم وأعراضهم مستباحة ، وبالضرورة ليس للجوييم أية حرمة أو مقدسات .. أما الدافع الثاني هو التشكك الإسرائيلي العام في توجهات وانتماء عرب 48 لعروبتهم ، وهي التهمة التي يتفاخر بها أبناء فلسطين ولا يسعون لإنكارها ، وبالتالي تنعكس على تلك الحالة فرضية أن عرب 48 أعداء يحملون بطاقات الهوية الإسرائيلية ، وهو بدوره ما يترجم في صورة عقبات وإهمال ، بل واعتداءات يواجهها العرب داخل إسرائيل في كل مكان بدءا بالمدرسة ومرورا بالمصالح الحكومية وحتى داخل البرلمان " الكنيست " ..
والدافع الأهم والأكبر على المستوى السياسي والفكري داخل إسرائيل ، وهو ما يطلق عليه هاجس الخطر الديمجرافي ، مع زيادة أعداد السكان العرب بصورة كبيرة مع تناقص نمو السكان اليهود .. وانطلاقا من هذا الهاجس يعتبر الساسة الإسرائيليون أن الموافقة على مجرد مناقشة دولة ثنائية القومية كحل للمشكلة الفلسطينية نوع من الخيانة العظمى .. في حين أن مواطنة عرب 48 داخل إسرائيل تعتبر النموذج المصغر لتلك الدولة ثنائية القومية التي تؤرق المجتمع اليهودي بأكمله .. وتتنوع وتختلف أشكال التمييز العنصري ضد العرب في المجتمع الإسرائيلي منذ إعلان دولة إسرائيل على أرض فلسطين . فقد فرضت الحكومة الإسرائيلية الأولى فور تشكيلها برئاسة " ديفيد بن جوريون " الحكم العسكري وقانون الطوارئ على عرب 48 ، واستمرت تلك الأحكام العنصرية قرابة الثلاثين عاما بهدف محاصرة العرب وعزلهم ودفعهم إلى هجر وطنهم وترك أراضيهم وممتلكاتهم ، وكان من أهم ملامح تلك الإجراءات التعسفية تقييد حركة المواطنين العرب ، وحظر حرية التنقل خارج أماكن سكناهم ، ومن يخالف ذلك يتعرض للسجن والعقوبة كخارج على القانون ، وكان يتعين على العربي إذا أراد الإنتقال إلى أي حي آخر غير الذي يسكنه الحصول على تصريح خاص محدد المدة بالساعة من قبل الحاكم العسكري .. وهو التصريح الذي كان لا يمكن الحصول عليه دون دفع رشاوى للقائمين على ذلك الأمر ، كما يمنع القانون على على العربي المبيت خارج منزله !!
ومع تطور الأحداث بدأت أشكال الاضطهاد تختلف وتتنوع ، فالمدارس العربية لا تحظى بأي دعم أو اهتمام من الحكومة ، ومع فرض رقابة صارمة على المناهج الدراسية .. وفي المقابل يلقن الأطفال اليهود في المدارس كل ما يحض على كراهية العرب بدءا من قصص الأطفال وأناشيد وأغاني الأطفال التي دوما ما تصف العربي بالشرير والوقح والقذر الذي يجب التخلص منه ، وانتهاء بالمناهج الدراسية التي تهدف دوما لتزوير التاريخ والوقائع والأحداث ، وفي الجامعة يحظر على الطلاب العرب ممارسة أي نشاط طلابي خاص بهم ، وإلا اعتبروا خارجين على القانون .. وتنعكس حالة العداء اليهودي للعرب داخل إسرائيل بشكل عام على الأحياء العربية والخدمات الأساسية التي يجب أن يحصلوا عليها من شبكات مياه وصرف وتعبيد طرق ، وهي توصف دوما بالأحياء الفقيرة .. ومن أبرز ملامح التمييز العنصري والإضطهاد الذي يعاني منه العرب، المعاملة الأمنية المستفزة التي يلاقيها العربي في كل مكان بدءا من دخول السينما والنوادي الليلية والحدائق العامة التي يحظر بعضها دخول العرب إليها ، وحتى شركات الطيران الإسرائيلية التي ترفض ركوب المواطنين العرب على متن رحلاتها الداخلية بين المدن الإسرائيلية رافعة شعار دواعي أمنية أمام أي محاولة قانونية أو إعلامية لكسر ذلك الحصار العنصري .. ولا تتوقف العنصرية الإسرائيلية ضد العرب عند حد الإجراءات الرسمية أو التصريحات المعادية التي تطال أعضاء الكنيست العرب فقط ، بل تتجاوز كل ذلك إلى إقرار التشريعات والقوانين التي تكرس وتقنن اضطهاد وحصار المواطنين العرب ، ففي ديسمبر 2006 صادق الكنيست على تمديد مدة سريان ما يسمى بقانون المواطنة ، الذي يمنع زواج العربي أو العربية من أحد سكان الضفة الغربية أو قطاع غزة ، كما يمنع ذلك القانون العنصري لم شمل الأسر الفلسطينية أو استقدام امرأة أو رجل أو طفل من تلك المناطق أو ما يسمى بالدول الخطيرة مثل سوريا ولبنان والسعودية والعراق .. كما صادق الكنيست خلال شهر يناير 2007 على اقتراح " جلعاد أردان " عضو حزب الليكود بسحب المواطنة الإسرائيلية لكل من يقوم بزيارة ما أسماه القانون بدول العدو دون الحصول على إذن مسبق .. وهو ما يصفه المراقبون بأنه سيصبح سيفا مسلطا على رقاب جميع العرب داخل إسرائيل !!
وبقيت قضية اللاجئين الفلسطينيين ، ورغم أنها المحور الرئيسي في قضية الإحتلال ، على هامش الإهتمام العربي والدولي ، وهناك نحو 5.2 مليون لاجىء ( الجهاز المركزي للأحصاء الفلسطيني 2012 ) وبعضهم لايزال يحتفظ بمفتاح الدار يتوارثه أبا عن جد ، ولكن القضية ليست في صكوك الملكية ، كما أجاد تصويرها سينمائيا ـ وبتبسيط غير مخل للواقع والحقيقة ـ المخرج العالمي اليوناني الأصل " كوستا جافراس " في فيلم " حنا ـ ك " 1983 ويرسم العلاقة بين المحامية الإسرائيلية ـ حنا ـ والشاب الفلسطيني ـ سليم البكري ـ في رحلته للبحث عن بيته رغم وجود كافة الوثائق والمستندات التي تؤيد حق الملكية ، ولكن صديقها رجل القانون يضع أمامها الحقيقة عارية : " أن أوراقه صحيجة ، لكننا لن نحكم لصالحه ، ولو فعلنا سيصبح من حق مليوني مواطن مثله العودة إلى هذه الأرض " !! وتتعرض المحامية الإسرائيلية للتهديدات ، والمضايقات والملاحقات الأمنية ، وحتى تتخلى أخيرا عن مرافعاتها القانونية ، ومساندة الشاب الفلسطيني ، وهي تستعيد كلمات أستاذها في القانون ، وقد تحولت إلى جرعات تخدير يذهب بالوعي والعقل : " إذا كان ضروريا أن ندافع عن هذا الوطن برفض حقوق الآخرين ، فلا مانع أبدا .. !!! " .. والقضية تحتك بالمشكلة الديموجرافية التي تؤرق إسرائيل حتى اليوم ، ومنذ بدايات الحركة الصهيونية في القرن التاسع عشر ، والتي وصفت ما أسمته " المشكلة السكانية " بأنها العقبة الكبرى ضد تحقيق حلمها .. وقال تيودور هرتزل في يومياته عام 1895 " سوف نسعى إلى طرد السكان من الفقراء عبر الحدود دون أن يلاحظ أحد ، وندبر لهم وظائف في دول الترانزيت ، ولكننا لن نسمح لهم بأي وظيفة في دولتنا " .. وفي ديسمبر 1947 كان بن جوريون صريحا في قوله : " لن تكون هناك دولة يهودية مستقرة وقوية مادامت فيها أغلبية يهودية لا تتجاوز 60 % فقط ، وأن دولة بها 80 % من اليهود على الأقل هي وحدها الدولة المستقرة والقابلة للحياة ، وهدد بن جوريون بأن إسرائيل سوف تطبق أشد الإجراءات قسوة لمواجهة هذه المشكلة ، ثم عاد فأعلن بعد التطهير العرقي في العام التالي ( 1948 ) أن عدد الفلسطينيين تم إنقاصه إلى أقل من 20 % من مجموع سكان الدولة اليهودية الجديدة ..وفي ديسمبر 2003 أعاد بنيامين نتنياهو " تدوير " تحذيرات بن جوريون بقوله : إذا شكل العرب في إسرائيل 40 % من السكان فسوف تكون تلك نهاية الدولة اليهودية ، وأن نسبة 20 % أيضا مشكلة ، وإذا تحولت العلاقة مع هذه النسبة إلى مشكلة فإن على الدولة تطبيق أشد الإجراءات !! وقد سبقه أيضا إيهود أولمرت رئيس وزراء إسرائيل الأسبق ، بطرح فكرة "هيتكانسوت" " ومعناها "التجميع " أو " الحشد " وهي سياسة تستهدف ضم أجزاء كبيرة من الضفة الغربية ولكن مع ترك بعض مناطق فلسطين كثيفة السكان خارج نطاق السيطرة الإسرائيلية ، أي الإستيلاء على أكبر جزء من فلسطين بأقل عدد ممكن من الفلسطينيين .. وهذه السياسة تفسر الطريق الثعباني بطول 670 كيلو مترا من الكونكريت الذي يبلغ ارتفاعه ثمانية أمتار ، والأسلاك الشائكة وأبراج المراقبة المأهولة بالحراس ، والتي تشكل في مجملها حائط العزل العنصري ، كما تفسر سياسة " التجميع " أيضا لماذا يمتد الحائط إلى أبعد من ضعف طول الخط الأخضر
ويبلغ عرض الجدار العازل حسب المعطيات الإسرائيلية من 80 ـ 100 متر .. يتكون من أسلاك شائكة لولبية وهو أول عائق في الجدار ، وخندق بعرض 4 أمتار وعمق خمسة أمتار ، يأتي مباشرة بعد الأسلاك الشائكة ، وشارع مسفلت بعرض 12 مترا وهو شارع عسكري لدوريات المراقبة والاستطلاع .. ويلي الشارع المسفلت شارع مغطي بالتراب والرمل الناعم بعرض 4 أمتار لكشف أثار المتسللين ، ويمشط هذا المقطع مرتين يوميا صباحا ومساء .. ويلي الشارع الجدار ، ويعلوه سياج معدني الكتروني بارتفاع أكثر من ثلاثة أمتار ، ركب عليه معدات إنذار إليكترونية وكاميرات وأضواء كاشفة .. وبعد السياج الواقي أنشيء شارع رملي وترابي ثم شارع مسفلت وبعدها خندق مماثل للخندق الأول ثم الأسلاك الشائكة اللولبية .. والجدار يطوق الضفة الغربية ، ويتضمن أنظمة ونقاط تفتيش ومعسكرات للجيش ودوريات للشرطة ، ويخلق منطقة عسكرية عازلة بين الجدار والخط الأخضر وتمتد مساحتها بين 30 ـ 100 كم ، فضلا عن منطقة أمنية أخرى تمتد داخل الأراضي تعرف " بجدار العمق يقع إلى الشرق من الجدار العازل ".. وكانت الجمعية العامة للأمم المتحدة قد طلبت في ديسمبر 2003 من محكمة العدل الدولية النظر في أمر الجدار العازل الذي يمتد بطول 670 كيلو مترا في أغلبه على أراضي احتلتها إسرائيل عام 1967 وليس بمحاذاة الحدود المعترف بها دوليا بين إسرائيل والضفة الغربية وإصدار حكم بشأنه ، وقد قضت المحكمة الدولية في 9/7/2004 بعدم شرعية الجدار العنصري وأعلنت أنه غير قانوني وفقا للقانون الدولي ، ودعت المحكمة سلطات الاحتلال الإسرائيلي إلى سرعة إزالة جدار الفصل العنصري وتعويض الفلسطينيين المتضررين من بنائه ، واتخذ قضاة المحكمة قرارهم بغالبية 14 صوتا مقابل صوت واحد معارض هو صوت القاضي الأمريكي توماس بيرجنتال وهو ما اعتبره البعض قرارا تاريخيا يمثل إنجازا للقضية الفلسطينية وصفعة قوية للسياسات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة ..