القاهرة 08 يوليو 2014 الساعة 04:19 م
"العروس جميلة جدا ، وهي مستوفية لجميع
الشروط ، لكنها متزوجة فعلا .. "
من برقية حاخامين يهــود إلى " ماكس نوردو" صديـــق "هيرتزل"
أرسلهما إلى فلسطين لإستكشاف الأحوال فيها، نهاية القرن التاسع عشر
في كل الأحوال كانت أسوار القدس هي نافذة الحلم الصهيوني للقفز بإتجاه أوهام العودة إلى الأراضي المقدس .. وفي لحظة مبكرة من تحريك المسألة اليهودية على المسرح الأوروبي ، كانت ورقة نابليون اليهودية ، هي الوثيقة التي تستحق الإهتمام في السياق التاريخي ، لأنها الأثر الإستراتيجي الباقي في المنطقة من تلك الأيام وحتى نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين .. وكانت ورقة "نابليون بونابرت" من خارج أسوار القدس ـ مع بداية الحملة الفرنسية على مصر 1798 ـ تقول إحدى فقراتها : " إن الجيش الذي أرسلتني العناية الإلهية به ، ويمشي بالنصر أمامه وبالعدل وراءه ، قد إختار القدس مقرا لقيادته ، وخلال بضعة أيام سينتقل إلى دمشق المجاورة التي إستهانت طويلا بمدينة داود وأذلتها .. ياورثة فلسطين الشرعيين .. إن الأمة الفرنسية التي لا تتاجر بالرجال والأوطان كما فعل غيرها، تدعوكم إلى إرثكم بضمانها وتأييدها ضد كل الدخلاء " .. ويقول الأستاذ محمد حسنين هيكل في كتابه "المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل .. الأسطورة والإمبراطورية والدولة اليهودية " : في تلك الأيام كان الكلام عن العودة إلى فلسطين نداء يتردد على لسان أحد الحاخامات بين حقبة وأخرى ، وربما مرة كل ثلاثين أو أربعين سنة ، ولم يكن هناك من يأخذ هذا النداء جدا ، أو يعلق عليه بأكثر من أنه حنين يجتر الوهم ، لأن العودة خلط متعسف للأسطورة بالتاريخ ، ثم إنها حتى في الأساطير مرهونة بإشارات وعلامات لم تظهر بعد على أي أفق ، وعندما أصبح "نابليون" إمبراطورا لفرنسا ، كانت فكرة الوطن اليهودي العازل مستولية عليه ، وهكذا فإنه دعا سنة 1807 إلى عقد مجمع يهودي " سانهردان " يحضره كل يهود أوروبا ممثلين في رؤساء طوائفهم ، إلى جانب مشاهير حاخاماتهم ، ليلم " شمل " الأمة اليهودية " على حد قوله ، ثم كان ملفتا أن يكون القرار الذي يحمل رقم 3 من قرارات المجمع ، قرارا يتحدث بالنص عن : " ضرورة إيقاظ وعي اليهود إلى حاجتهم للتدريب العسكري لكي يتمكنوا من أداء واجبهم المقدس الذي يحتاج إليه دينهم " ..
كانت ورقة " نابليون " اليهودية ( وعدد اليهود في فلسطين ذلك الوقت لم يزد على ألفين ) محاولة لخدمة تصوراته الإستراتيجية المبكرة بخلق عازل يفصل بين مصر وسوريا ، وهو يرى أن مصر في إتصال غير قابل للإنفصال مع السهل السوري الذي يشكل معها زاوية قائمة تحيط بالشاطئ الشرقي الجنوبي للبحر الأبيض ، وهذه الزاوية القائمة بضلعها الجنوبي في مصر تمد تأثيرها بالعرض إلى كل الساحل الشمالي لأفريقيا ، وبالطول إلى الجنوب حتى منابع النيل ، ثم إنها بضلعها الشمالي في سوريا تلامس حدود بلاد ما بين النهرين )العراق ) وشبه الجزيرة العربية والخليج ، وحتى طرق الإقتراب البري والبحري إلى فارس والهند .. وكان "نابليون" مع أحلام وتطلعات ومطالب الإمبراطورية الفرنسية ، يخشى إلى جانب الخطر الخارجي ، من أن الإسلام والعروبة في كل من مصر وسوريا )ضلعي الزاوية ) يقدران في يوم من الأيام ـ كما حدث من قبل خلال الحروب الصليبية ـ على صنع قوة ذاتية تتشجع على الإنفلات من قبضته ، وقد تواجهه بما لا يتحسب له أو يريده ، ولكي يضمن عدم التقاء الضلعين عربيا وإسلاميا ، فإنه يزرع عند نقطة التقائهما ، أي عند مركز الزاوية ، شيئا آخر لا هو عربي ولا هو إسلامي !!
ولم تكن ورقة نابليون اليهودية ـ الرؤية والهدف والتصورات الإستراتيجية ـ غائبة عن فكر ساسة بريطانيا العظمى ، لتحقيق المطلب الأساسي في إرث ممتلكات الخلافة العثمانية في الشرق ، وخلق المشروع الصهيوني ، وبالتحديد في تلك الزاوية الإستراتيجية الهامة المحيطة بشرق البحر المتوسط .. وكان ذلك هو المنطق الذي تبناه رئيس وزراء بريطانيا اللورد " بالمرستون " ففي 11 أغسطس 1840 حين كتب إلى سفيره في استانبول اللورد "بونسونبي" بتعليمات جاء فيها ما يلي : " عليك أن تقنع السلطان وحاشيته بأن الحكومة الإنجليزية ترى أن الوقت أصبح مناسبا لفتح أبواب فلسطين أمام هجرة اليهود إليها ، لقد حان الوقت لكي يعود هذا الشعب المشرد إلى أرضه التاريخية، إن السلطان وحاشيته قد لا يقتنعان بهذا المنطق الأخلاقي ، ولذلك عليك أن تجعلهما يدركان أن اليهود في العالم يملكون ثروات ضخمة ولديهم كنوز من المال وفيرة ، وإذا حصلوا على حماية السلطان فسوف يكون في مقدوره أن يقنعهم بمساعدته ، وهم بلا شك سوف يقدرون عطفه عليهم ،عليك أن تذكر السلطان وحاشيته بأنه يقوم الآن بين اليهود المبعثرين في كل أوروبا شعور قوي بأن فرصتهم في العودة إلى فلسطين آخذة في الاقتراب ، ومن المعروف جيدا أن يهود أوروبا يمتلكون ثروات كبيرة ، ومن المؤكد أن أي قطر يختاره اليهود ليستوطنوا فيه سوف يحصل على فوائد عظيمة من ثروات هؤلاء اليهود ، فإذا عاد الشعب اليهودي تحت حماية ومباركة السلطان إلى فلسطين فسوف يكون ذلك مصدر ثراء له ، كما أنه سوف يكون حائلا بين "محمد علي " أو أي شخص آخر يخلفه ، وبين تحقيق خطته الشريرة في الجمع بين مصر وسوريا وتهديد الدولة العليا ، وحتى إذا لم يؤد هذا التشجيع الذي يمنحه السلطان لليهود إلى إستيطان أعداد كبيرة منهم في فلسطين ، فإن إصدار قانون يعطيهم حق الإستيطان سوف يعمل على نشر روح من الصداقة تجاه السلطان بين جميع يهود أوروبا ، وسوف ترى الحكومة التركية على الفور أنها كسبت أصدقاء أقوياء ومفيدين، بقانون واحد من هذا النوع"
وفي هذه الأجواء كان الزعيم الصهيوني " ناحوم سوكولوف " يرى ـ كما ورد في مذكراته ـ أنها الفرصة الذهبية أمام الحركة اليهودية لكي تملأ هذا الفراغ وتطالب ببعث إسرائيل من جديد ، فهذا هو الحل للمشكلة اليهودية وجزء من الحل بالنسبة للمسألة الشرقية " !!
وتواصلت الحركة على هذا المسار ، وتلاحقت على نفس المسار النوايا والخطط والتحركات ، ترسم لنفسها ما يناسب هواها بإتجاه مشروع توطين اليهود في فلسطين ..وكانت الساحة البريطانية مسرحا للتحركات والترتيبات والإتصالات ومحور الرسائل حول المشكلة الملحة على كل الأطراف ، وهي مشكلة فتح أبواب فلسطين أمام الهجرة اليهودية .. وكان مجمل التطورات يكشف عن النوايا والخطط والتحركات والإلحاح لتقبل فكرة الهجرة إلى فلسطين أو فرضها كأمر واقع .. وفي نفس السياق كتب "إدوارد لودفينج ميد فورد " ـ دبلوماسي إنجليزي ـ ما أسماه " نداء بالنيابة عن اليهود لإنشاء كومنولث بريطاني في الشام " فقال : " إن فلسطين إذا ما أخذنا في الإعتبار مساحتها ، تبدو صغيرة ولا تتسع لكل اليهود ، وقد تنشأ مشاكل بسبب هجرة مستوطنين كثيرين ، لذلك يستحسن قبل القيام بتوسيع نطاق الإستيطان في فلسطين ، أن يتم إعداد البلاد كلها لإستقبال شعبها الجديد ، ويمكن إقناع الحكومة العثمانية بتهجير كل السكان " المحمديين " وتوطينهم في المناطق الشاسعة الخالية من شمال العراق ،حيث يستطيعون إمتلاك أرض أفضل من تلك الأرض التي سوف يتركونها وراءهم " !! واللافت للنظر أن كلمات " إدوارد لودفينج ميدفورد " التي تشكك في إمكانية تحقيق مشروع الدولة اليهودية في فلسطسن ، جاءت متوافقة تماما مع رؤية سابقة ، وقبل المؤتمر الصهيوني في بازل ، حين أراد "ماكس نوردو " وهو من أقرب أصدقاء ثيودور هيرتزل ، أن يقنع بعض الحاخامات الأوروبيين المترددين ، واقترح أن يبعث باثنين منهم إلى فلسطين ، يريان رأي العين ، ثم يعودان ليقدما تقريرهما عن حقائق الأوضاع هناك ، وأثناء تواجدهما في فلسطين بادرا فورا بإرسال برقية إلى "نوردو " يقولان فيها بالرمز : " إن العروس جميلة جدا ، وهي مستوفية لجميع الشروط
، لكنها متزوجة فعلا " وعندما عاد الحاخامان والتقيا ب " ماكس نوردو " أكدا له في تقريرهم الشفوي : أن هناك شعبا عربيا فلسطينيا يسكن فلسطين من آلاف السنين ، ويزرع أرضها ويعتبرها وطنه ، وبالتالي فإن اليهود الراغبين في الذهاب إلى فلسطين والإستيطان فيها ، أمامهم معركة قاسية مع أصحابها الأصليين ، وأن تصرفات المستوطنين اليهود الذين هاجروا إلى فلسطين ، هي تصرفات تحمل ظواهر علل نفسية قد تزيد مع الأيام ، ومن المحتم أن تزيد ، ذلك أن المستوطن اليهودي ، لكي يريح ضميره ، ولكي يستطيع مواصلة حياته في الأرض الموعودة ، يتحتم عليه إنكار وجود " الآخر " ـ أي الفلسطيني ـ بمثل ما يمكن تصوره من رغبة عاشق لزوجة رجل آخر في الخلاص من زوجها إلى درجة قتله ، لكي ينتهي منه جسدا وروحا وذكرى ، وأن الطريقة التي يتصرف بها المستوطن اليهودي إزاء المواطن الفلسطيني ، تتصف بإستعلاء إلى درجة الإحتقار والكراهية ، وعنف في التصرف ليس له ما يبرره ، وافتعال لأسباب ليس لها هدف ، إلا أن تضع مسافة بين الطرفين بحيث لايستطيع أحدهما أن يرى الآخر أو ينظر إليه في وجهه .. "
ثم جاء دور " ثيودور هيرتزل " والذي توجه إلى صميم الهدف مباشرة ، وهو يرى أن الظروف المستجدة تقتضي الإسراع في تنفيذ المشروع .. وكانت خطة " هيرتزل " أن يشتري فلسطين من السلطان ، وتلك خطة تكشفها يوميات " هيرتزل " وتشرح مقاصده فيها بوضوح لا تشوبه ظلال .. وبتاريخ 15 يونيو 1896 يكتب " هيرتزل " في يومياته قائلا : " سوف نقدم للسلطان 20 مليون جنيه إسترليني لإصلاح الأوضاع المالية المتدهورة في تركيا ، منها مليونان بدل فلسطين ، والباقي وقدره 18 مليونا يمكن إستخدامه في تحرير تركيا من الحماية الأوروبية وشراء سندات ديونها .. ورغم كل إغراءات ومحاولات " هيرتزل " والمساعي البريطانية الموازية ، إلا أن السلطان كان مترددا يخشى من ضغوط إسلامية وعربية يحس تأثيرها ويهمه تفاديها !!
والسلطان عبد الحميد كان والده يصفه بـ" الشكاك الصامت " وتعلم العربية والفارسية ودرس الأدب والتاريخ والموسيقى والعلوم العسكرية والسياسية ، وتوفى والده وهو لم يتجاوز الثمانية عشرة من عمره ، فصار ولي عهد ثانيا لعمه السلطان عبد العزيز الذي تبوأ كرسي الخلافة العثمانية طيلة خمسة عشر عاما ، لازمه هو فيها في سياحاته ورحلاته إلى أوروبا ومصر .. وأطلقوا عليه لقب "السلطان الأحمر " ويقال إن أوروبا هي التي كانت وراء هذه التسمية حيث لم يكن بالنسبة لها شخصا مرغوبا فيه ، وربما لأنه لم يكن من الممكن لأي دولة مهما كان ثقلها في أوروبا أن تقتطع أجزاء من الدولة العثمانية أو البلقان أثناء خلافته ، ولذلك فقد عملت أوروبا على إسقاطه .. ربما أيضا لأنه طالما نادى بتوحيد القوى الإسلامية في مواجهة الأطماع الإستعمارية وسعى لطرح شعار " الجامعة الإسلامية " وجعلها سياسة عليا لدولة الخلافة ، وعمل على توثيق الروابط بين مسلمي الصين والهند وأفريقيا ،فأقام الكليات والمدارس ،وعنى بتسليح الجيش ، وبمشروع سكة حديد الحجاز لتيسير الحج على المسلمين عوضا عن طريق القوافل ، غير أن من أوضح أسباب تشويه صورة الرجل أنه رفض إغراءات وعروض "هيرتزل " رئيس الجمعية الصهيونية ، حينما كان أول اتصال بينهما بوساطة من سفير النمسا في اسطنبول ، إذ عرض هرتزل على السلطان عبد الحميد توطين اليهود في فلسطين .. وكان "هيرتزل" قد أغرى السلطان بملايين الليرات العثمانية الذهبية كهدية ضخمة للسلطان ، فضلا عن مليوني ليرة أخرى تودع في الخزينة العثمانية، وحينها أدرك السلطان أن هيرتزل يرشوه من أجل تأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين ، وأنهى معه اللقاء بجفاء.. وكتب السلطان عبد الحميد في مذكراته عن هذا الموقف فقال : " إننا قد نكون وقعنا قرارا بالموت على إخواننا في الدين " .. وكانت صلابة عبد الحميد الثاني سببا رئيسيا في تأخير مشروع الدولة الصهيونية من عام 1901 لذلك فقد دأب اللوبي اليهودي تشويه صورة السلطان ، بل وتغلغل بعضهم في جمعية " الإتحاد والترقي " التي أسقطت السلطان عبد الحميد وباعتباره السلطان الأحمر المستبد وكاره للعلم والمثقفين ..وهو في مذكراته يرد على هذا أيضا فيقول : " أعمالي تدل على أني إحترمت العقل والعلم ، هكذا يكتبون عني دون أدنى خجل أنني كنت عدوا للعقلاء ، إنهم لم يقدموا نموذجا واحدا على هذا ، لأنني أبحث طول حياتي عن الإنسان العاقل ، ولو كنت عدوا للعقل والعلم فهل كنت أفتح جامعة ؟ وهل كنت أنشئ المدارس التي تعد الإنسان المثقف مثل مدرسة ( ملكية شاهانه ) ولو كنت عدوا للعقل والعلم فهل كنت أنشئ لفتياتنا دار المعلمات ، وعندما أمرت بتدريس الفلسفة في مدرسة " ملكية شاهانه " تمرد الطلاب جميعهم وقالوا : " يريدون أن يجعلونا كفارا " ولكني أعرف أن الكفر ليس في العلم ولكنه في الجهل ، وتمسكت بتدريس الفلسفة ودرسها الطلاب بعد تعديل إسمها من الفلسفة إلى الحكمة ..
وقبل أن يتوجه "هيرتزل" إلى دار الخلافة العثمانية ، كان موقف الفاتيكان يثير هواجس القلق لديه عشية المؤتمر الصهيوني الأول ( 29 أغسطس 1897 ) بعد أن أصدر الفاتيكان بيانا جاء فيه :" لقد مرت 1827 سنة على تحقيق نبوءة المسيح بأن القدس سوف تدمر ، أما فيما يتعلق بإعادة بناء القدس بحيث تصبح مركزا لدولة إسرائيلية يعاد تكوينها ، فإن ذلك يتناقض مع نبوءات المسيح الذي أخبرنا بأن القدس سوف تدوسها العامة حتى نهاية الزمن ـ لوقا 40 : 42 ـ وتوجه هرتزل برسالة إلى الفاتيكان طالبا دعمه ، ورد عليه البابا بيوس العاشر بالقول : " لا نستطيع أبدا ، أن نتعاطف مع هذه الحركة ـ الصهيونية ـ فنحن لا نستطيع أن نمنع اليهود من التوجه إلى القدس ،ولكننا لا يمكن أبدا أن نقره ،أنني بصفتي قيما على الكنيسة لا أستطيع أن أجيبك في شكل آخر ، لم يعترف اليهود بسيدنا ولذلك لا نستطيع أن نعترف بالشعب اليهودي ، وتاليا فإذا جئتم إلى فلسطين ، وأقام شعبكم هناك ،فإننا سنكون مستعدين كنائس ورهبانا لتعميدكم جميعا .. " وعندما إستقبل البابا بيوس العاشر " هرتزل " أبلغه رفضه إقامة وطن يهودي في فلسطين ، لأنه يتناقض مع المعتقد الديني المسيحي .. وفي عام 1917 صاغ البابا نبديكت الخامس عشر شعار : " لا لسيادة اليهود على الأرض المقدسة " وعارض الفاتيكان وعد بلفور منذ صدوره .. وإستقبل البابا البعثة العربية الفلسطينية التي زارت الفاتيكان في العام 1921 وتبنى رفض منح اليهود أي وضع مميز في فلسطين وذلك من خلال رسالة الكاردينال غاسباري عام 1922 وتميز موقف الفاتيكان خلال هذه الفترة بدعم المسيحيين العرب وتشجيعهم على المشاركة في النضال ضد الحركة الصهيونية .. وفي عام 1946 أرسل الفاتيكان مبعوثا إلى واشنطن ليبلغ الولايات المتحدة : "إن الكاثوليك في العالم لا يمكن أن يجرحوا في كرامتهم الدينية إذا سلمت فلسطين لليهود أو وضعت بصورة عملية تحت السيطرة اليهودية " .. وتعرض الفاتيكان لضغوط قوية من أجل تغيير هذا الموقف ،وكان الضغط مباشرا من الولايات المتحدة الأمريكية ،غير أن الكرسي الرسولي إستمر على تأكيد مواقفه ،فلم يعترف بإسرائيل، ورفض بداية قرار التقسيم ثم عاد للموافقة عليه .. وبعد الإعلان عن قيام إسرائيل كتبت صحيفة الفاتيكان " أوبسر فانتوري رومانو " : " أن الصهيونية ليست تجسيدا لإسرائيل ، كما وصفتها التوراة ، الصهيونية ظاهرة معاصرة قامت على أساسها الدولة المعاصرة ، وهي فلسفيا وسياسيا علمانية ، أن الأراضي المقدسة والأماكن المقدسة تشكل جزءا وقطعة من العالم المسيحي " .. وأعلن البابا بيوس الثاني عشر ( في أكتوبر 1948 ) أنه " يحبذ إعطاء طابع دولي للقدس وجوارها ، كأفضل ضمان لسلامة المقدسات في ظل الظروف الراهنة " وأعلن الفاتيكان تأييده للقرارات الصادرة عن الأمم المتحدة بشأن القضية الفلسطينية ..
ولكن قد حدث تغييرا دراميا في موقف الفاتيكان فيما بعد ، تغيير أثار الدهشة بمقدار ما أثار التعجب ، ومع الوثيقة التي صدرت عن مؤتمر الفاتيكان الثاني في الستينيات ووقع عليها اليابا يوحنا الثالث والعشرون قبل وفاته بخمسة أشهر تطالب المسيحيين بالمغفرة لليهود وعدم تحميلهم مسئولية دم المسيح، وقصة هذه الوثيقة بدأت في عام 63 عندما انعقد المجمع المسكوني لبحث تقوية الوحدة المسيحية ، وفي الدورة الثانية من المؤتمر قدم الكاردينال " بيا " وهو ألماني الجنسية ، ورقة تعد الصورة التمهيدية لهذه الوثيقة ، تضمنت الورقة تبرئة اليهود من دم المسيح ، وتشير إلى أن الشعب اليهودي جزء من الأمل المسيحي ، وإنه لا يجوز أن ننسب إلى يهود عصرنا ما أرتكب من أعمال أيام المسيح ، وبرر الكاردينال كلامه بأن كثيرين من اليهود لم يكونوا يعرفون شيئا عما حدث ، كما أن بعض قادة اليهود لم يوافقوا على ما فعله سائر الكهنة ، وتم عرض هذه الورقة على المؤتمر، فثار المطران الهندي "كوتنهو " وطالب بحذفها وإضافة فصول من الديانة الهندية والإسلامية ، واتخذ نفس الموقف كرادلة الشرق وشباب الكاثوليك بالقدس ، وأكدوا أن ذلك ليس حقا للجميع ، وطالبوا بالإلتزام بما جاء في سفر الخروج : " أنا الرب الهك ، إله غيور ، أفتقد ذنوب الأباء في الأبناء " خروج 15:20 واستشهد القس إبراهيم سعيد رئيس طائفة الأقباط الإنجيليين ، بنصوص الانجيل التي تقرر أن اليهود طلبوا صلبه ثم أنهم قالوا : " دمه علينا وعلى أولادنا " ـ متى 27 : 25 ـ كما استشهد بقول بطرس لثلاثة ألاف من اليهود : " يسوع هذا الذي صلبتموه أنتم " ـ أعمال 2 : 36 ـ وأمام هذه الإعتراضات تم تشكيل لجنة ، وعدلت الوثيقة وصدرت في أكتوبر 1965 تحت مسمى " وثيقة تيرئة اليهود " وتضمنت التأكيد على أن " ما أرتكب أثناء آلامه ـ المسيح ـ لا يمكن أن يعزى إلى جميع اليهود الذين كانوا يعيشون آنذاك ، ولا إلى يهود اليوم ، وما حصل للمسيح من عذاب ، لايمكن أن يعزى لجميع الشعب اليهودي " وأكدت الوثيقة على عدم توريث المسئولية إلى يهود اليوم أو سحبها على جميع اليهود .. ونص الوثيقة أثار جدلا واسعا بعد صدوره ، بين الطوائف المسيحية ، وقد قبلها البعض ، ورفضها البعض الآخر ، خاصة الكنائس الشرقية ، وكان تعليق قداسة البابا شنودة الثالث ـ بطريرك الكرازة المرقسية وبابا الإسكندرية الراحل ـ " إن الذين يبرئون اليهود من دم المسيح ، يعطونهم شيئا لا يجرؤ اليهود أنفسهم على طلبه ، ولا يستطيع اليهود اطلاقا أن يطلبوا تبرئتهم من دم المسيح ، والسبب بسيط ، فاليهود لايعتقدون أن المسيح قد جاء ، فكيف يطلبون تبرئتهم من دم شخص يرفضون الإعتراف بمجيئه ولا يؤمنون بأنه جاء أصلا ، هم يرفضون المسيح الوديع ، وينتظرون حاليا مسيحا حربيا ، يولد ليكون زعيما سياسيا وعسكريا من نوع شمشون الجبار ، حيث يقود جيوشهم للقتال وسفك الدماء والفساد في الأرض " !!
وبالضرورة كانت الجماعات اليهودية والصهيونية تريد إستثمارا سريعا لوثيقة المجمع المسكوني ، ولكن وقوع عدوان يونيو 1967 واحتلال كامل القدس ، فرض إهتماما خاصا من قبل البابا " بولس السادس " بمدينة القدس ، واعتبر أن وضعها هو الأساس في العلاقة بين الفاتيكان وإسرائيل ، وحدد في خطاب له عام 1967 ثلاث نقاط أساسية : 1 ـ حماية الأماكن المقدسة والطابع التاريخي والديني لمدينة القدس 2 ـ الطبيعة الدولية للقانون الذي يجب أن يطبق على الأماكن المقدسة والقدس 3 ـ ضملنات خاصة بالحقوق المدنية والدينية للطوائف في فلسطين .. والملاحظ هنا ، أن البابا قد تخلى في هذا النص عن الدعوة إلى " تدويل القدس " بالحديث عن الدعوة لنظام خاص يتمتع بضمانة دولية ، أما بشأن العلاقة مع إسرائيل فقد أكد البابا بولس السادس أنه لا يستطيع المشاركة في أي اتفاق مع بلد لا يعترف به الفاتيكان ، ولا يستطيع الإعتراف به طالما استمرت حالة الحرب في الشرق الوسط قائمة .. ثم رأت المنظمات اليهودية والصهيونية ضرورة توظيف عمليات ضغط متزايدة باتجاه الفاتيكان ، واللافت أن البابا " يوحنا بولس الثاني " استجاب لهذه الضغوط ، بل وسجل إندفاعه في هذه الإستجابة بصدور الوثيقة المعروفة بوثيقة 1985 والتي تحدثت للمرة الأولى عن إسرائيل ، وتمزج بين اليهود كأتباع ديانة ، وإسرائيل ككيان ، معتبرة ان اليهود تميزوا بأمرين : تمسكهم بعبادة الله ( يهوه ) .. وبحب أرض الأجداد من بني إسرائيل !! وتحفل الوثيقة بجملة من المواقف التي تعكس تغيرا عميقا في مواقف الكنيسة الكاثوليكية التقليدية إزاء اليهود ، وهو ما حفز كثيرين على وصفها بالوثيقة الأشد خطورة ، والأشد مناقضة لتعاليم المسيحية ، فالوثيقة تدعو إلى " مجهود تربوي يستأصل من نفوس المسيحيين الكاثوليك أي أثر للعنصرية من شأنه تشجيع المعاداة للسامية ، وأن يرسي المجهود التربوي فهما صحيحا للعلاقات الفريدة التي تربطنا بها كنيستنا بالعبرانيين والعبرية " وتقول الوثيقة : " أن المسيح كان عبرانيا وسيكون كذلك دائما ، وتدعو الكاثوليك في العالم ليفهموا تمسك اليهود الديني بأرض أسلافهم " واستوجبت مثل هذه المواقف التي تضمنتها الوثيقة ردودا كثيرة من أوساط مسيحية متعددة ، حتى أن هناك من وصفها بأنها منصوصة بفكر وروح وعاطفة تحرص على مصلحة اليهود أكثر من حرصها على حقيقة الدين المسيحي وكرامة المسيحيين وتاريخهم وتراثهم الروحي ، وبـانها وثيقة باطلة الأسس ومريبة الأهداف .. وعلى الرغم من كل ما اشتملته الوثيقة وأثارت جدلا بين أوساط المسيحيين ، اندفع البابا أكثر تجاه اليهود ، فقام بوصفه أسقف روما بزيارة الحاخام الأكبر في روما ، لكن ذلك لم يخفف من الغلواء اليهودية ، ففي 9/8/1989 قال البابا : " أن الخالق وعد عبر أقوال النبيين أريما وحزقيال بتحالف جديد مع شعبه في المسيح نتيجة كفر إسرائيل بإلهها " وثارت ثائرة اليهود حتى ذهب الفاتيكان إلى الاعتذار العلني ، وعندما قام البابا بمنح سكرتير عام الأمم المتحدة "كورت فالدهايم " وساما رفيعا ، وهو المتهم من قبل اليهود بأنه ناز متخف ، وجد الفاتيكان نفسه مضطرا بشكل دائم إلى رد الاتهامات بأنه ساعد النازيين في الحرب العالمية الثانية ، ومما دفع المتحدث باسم الفاتيكان " جواكيم ناقارو " إلى الكشف عن سر فاتيكاني بقوله : " أن الفاتيكان ساعد اليهود ومنظمات يهوديه ( أثناء الحرب العالمية الثانية ) مثل الوكالة اليهودية ، والمؤتمر اليهودي ـ الأمريكي " . . واعتبارا من عام 1986 أصبحت لقاءات البابا مع الزعامات اليهودية في الدول التي يزورها اعيادية ، كما أصبحت أحاديثه تشتمل دوما على تأكيده اعتراف الكاثوليك بما يصفه ب "الإرتباط التقليدي بين اليهود وأرض إسرائيل " فيما كان زعماء اليهود يحثون البابا على إقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل .. والغريب في الأمر ، رغم موقف البابا المعلن ، عندما أثيرت قضية الفيلم الذي أخرجه الممثل العالمي " ميل جيبسون " في عام 2004 " آلام المسيح " شاهد البابا الفيلم ورفض إدانته ، وقد أعلن الكرسي الرسولي : " أن البابا يوحنا بولس الثاني شاهد الفيلم ولم يكن له أي تعليق علني " واعتبر المتحدث باسم الفاتيكان " يواكيم نافار وفالز " أن الفيلم هو نقل سينمائي لواقعة تاريخية هي آلام المسيح إستنادا إلى رواية الأناجيل .. وتسربت بعض المعلومات عن الكرسي الرسولي بأن البابا أبدى موافقته على الفيلم ..
وما سبق مجرد إضافة للتوضيح بشأن المتغير في موقف الفاتيكان !!
وكان التخطيط البريطاني لترتيب أمور الشام ينتقل بسرعة للتركيز على فلسطين، وبالتحديد للعمل على إقامة وطن لليهود فيها ، يؤدي دوره المرسوم في الإستراتيجية البريطانية !! وأثناء الحرب العالمية الأولى طلبت الحكومة البريطانية سنة 1915 من السير "هربرت صمويل " أن يضع تصورا لما ينبغي أن يكون عليه أمر فلسطين بعد النصر ، وكتب " هربرت صمويل " بوصفه عضوا في وزارة الحرب ـ إلى جانب كونه يهوديا وصهيونيا أيضا ـ مذكرة بعنوان " مستقبل فلسطين " تاريخها 5 فبراير 1915 ، توصل فيها إلى نتيجتين : أحداهما : إن الحل الذي يوفر أكبر فرصة للنجاح ولضمان المصالح البريطانية ، هو إقامة إتحاد يهودي كبير تحت السيادة البريطانية في فلسطين ،وإن فلسطين يجب أن توضع بعد الحرب تحت السيطرة البريطانية ، ويستطيع الحكم البريطاني فيها أن يعطي تسهيلات للمنظمات اليهودية في شراء الأراضي وإقامة المستعمرات وتنظيم الهجرة والمساعدة على التطور الاقتصادي بحيث يتمكن اليهود من أن يصبحوا أكثرية في البلاد !!
وكانت تلك هي الظروف والأجواء التي صدر فيها " وعد بلفور " الشهير في 2 نوفمبر 1917 ، وأثناء إعداد وثائق مؤتمر السلام في " فرساي " أصرت الحركة الصهيونية على ضرورة أن يحتوي قرار المؤتمر بانتداب بريطانيا على فلسطين إشارة واضحة في مقدمته لـ " وعد بلفور" تأكيدا إضافيا بأن المهمة الرئيسية للإنتداب البريطاني هي العمل على إنشاء الوطن القومي لليهود في فلسطين !! ولم يكن في القدس قبل وعد بلفور غير 30.000 يهودي إندمج معظمهم بالعرب ، وتحدثوا لغتهم ومارسوا عاداتهم .. ومع الإنتداب البريطاني لفلسطين فتحت الأبواب أمام هجرة اليهود !! وما حدث يؤكد رؤية المفكر الراحل الدكتور جمال حمدان ، بأن الحركة الصهيونية تعلقت بأذيال الموجة الإستعمارية لتركبها وتستثمر المناخ السياسي الإستعماري العام وصولا إلى تنفيذ مخططاتها الخاصة بإنشاء الدولة اليهودية .. وهي نفس رؤية الزعيم العربي الراحل جمال عبد الناصر ـ في كتاب فلسفة الثورة 1954 ـ " بأن إسرائيل ، لم تكن إلاّ أثرا من آثار الإستعمار ، فلولا أن فلسطين وقعت تحت الإنتداب البريطاني ، ما إستطاعت الصهيونية أن تجد العون على تحقيق فكرة الوطن القومي في فلسطين ، ولظلت هذه الفكرة خيالا مجنونا ليس له أي أمل في واقع " ..
وكان حاييم وايزمان ـ رئيس المنظمة الصهيونية العالمية، والرئيس الإسرائيلي في بداية تأسيس الدولة ـ أكثر وضوحا في تحديد المواقف والمقاصد ،ورسم المشاهد الحية التي جرت ، وأجواء صناعتها ، وراحت كلماته تستكمل صورة للحقيقة تفصيلا بعد تفصيل ، في مذكراته التي نشرها في كتاب "التجربة والخطأ " .. يقول " وايزمان " : لقد كان يجب أن تساعدنا دولة كبرى ، وكان في العالم دولتان تستطيع كل منهما مساعدتنا : ألمانيا وبريطانيا .. أما ألمانيا فقد آثرت أن تبتعد عن كل تدخل .. وأما بريطانيا فقد أحاطتنا بالرعاية والعطف .. ولقد حدث في المؤتمر الصهيوني السادس الذي عقدناه في سويسرا ، أن وقف " هرتزل " يعلن يهود الدنيا أن بريطانيا العظمى ، وبريطانيا العظمى وحدها دون كل دول الأرض ، قد إعترفت باليهود كأمة ذات كيان مستقل ، منفصلة عن غيرها ، وأننا نحن اليهود خليقون بأن يكون لنا وطن ، وبأن تكون لنا دولة ، وقرأ " هرتزل " خطابا من اللورد "لاترسون " نائبا عن الحكومة البريطانية يتضمن هذا المعنى ، وكان هذا الخطاب يقدم لنا أرض أوغندا لتكون وطنا قوميا .. وقرر أعضاء المؤتمر قبول هذا العرض ، ولكننا بعد ذلك كتمنا أنفاسه في المهد ودفناه دون ضجة ، وعادت بريطانيا تريد أن تسترضينا ، وعرضت علينا منطقة سيناء ، وعلى أثر هذا العرض ألفنا لجنة من عدد كبير من علماء اليهود ، سافروا إلى مصر لدراسة منطقة سيناء ، وقابلوا في القاهرة اللورد " كرومر " المعتمد البريطاني في مصر ، والذي أظهر كل العطف على أمانينا في الوطن القومي .. ولكن اللجنة لم تجد في منطقة سيناء ما يفي بالغرض الذي كنا من أجله نريد الوطن القومي ، ولقد قابلت بعدها لورد " بلفور " وزير خارجية بريطانيا الذي بادر بسؤالي على الفور :
لماذا لم تقبلوا إقامة الوطن القومي في أوغندا ؟
وقلت لبلفور : إن الصهيونية حركة سياسية قومية ، هذا صحيح ، ولكن الجانب الروحي منها لايمكن إغفاله ، وأنا واثق تمام الوثوق أننا إذا أغفلنا الجانب الروحي فإننا لن نستطيع تحقيق الحلم السياسي القومي ، ماذا تقول لو أن احدا قال لك خذ باريس بدلا من لندن ، هل تقبل ؟!
وتنتقل صفحات مذكرات " حاييم وايزمان " إلى السنوات التالية ، ويقول : عدت إلى لندن في خريف سنة 1921 ، وكان الغرض من رجوعي أنني دعيت إلى لندن لأشرف على كتابة مشروع وثيقة الإنتداب البريطاني في فلسطين ، وكان يجب ان تعرض هذه المسودة على عصبة الأمم لتصدر بها قرارا ، بعد أن وافق مؤتمر سان ريمو على فكرة الإنتداب نفسها ، وكان لورد " كيرزون " قد تولى وزارة الخارجية البريطانية ، بعد لورد بلفور ، وكان هو المسئول عن وضع مشروع الوثيقة ، وكان معنا في لندن القانوني الشهير " ابن كوهين" ، وهو من أقدر واضعي الصيغ القانونية في العالم ، وكان " إيريك فوريس آدام " سكرتير كيرزون يتعاون معنا .. ووقع بيننا وبين كيرزون خلاف أول واخير :
كتبنا نحن في مشروع الوثيقة عبارة أردنا بها أن نقيد بريطانيا بوعد بلفور ، وبأن تكون خطتها في فلسطين قائمة على أساس الوطن القومي لليهود ، وكان نص العبارة التي كتبناها نحن " والإعتراف بحقوق اليهود التاريخية في فلسطين " .. وقال كيرزون أنه يقترح تخفيف العبارة حتى لايهيج العرب عند قراءتها ، وأنه يرى أن تكون كما يلي : "والإعتراف بصلات اليهود وعلاقتهم التاريخية في فلسطين " .. !!
وفي هذه الأجواء ، كان الصراع على الشرق الأوسط وفيه مازال مستمرا ..وقصته مفتوحة .. وأدرك الفلسطينيون حجم المؤامرة التي تحيط بالوطن ، ودور السياسة البريطانية التي تلعب بأقدار المنطقة وبمن عليها ، وبمن يتصدر مواقع الإمارة أو القيادة أوالزعامة في الدول العربية ، وأن الحارس الواقف على بوابات فلسطين بالإنتداب حتى هذه اللحظة ، يمهد الأرض للمستوطينين اليهود والأفواج القادمة منهم ، ويغض الطرف تماما عن العمليات الإرهابية العدوانية وممارسات العصابات الصهيونية .. فاندلعت نيران الثورة في فلسطين مع حادث 17 إبريل 1936 حين قتل اليهود إثنين من العمال العرب قرب نهر العرجا بقضاء يافا، وبعد يومين قامت مظاهرات بمدينة يافا ، وهاجم المتظاهرون الأحياء اليهودية ، وقتلوا وجرحوا ستين يهوديا ، وتدخل البوليس البريطاني ، وإشتبك مع السكان العرب ، وفرض نظام منع التجول ، وقتل فلسطينيان ، وأعلن الشعب العربي في فلسطين الإضراب العام الذي إستمر 176 يوما ،إضرابا عاما لم يسبق له مثيل في الوطن العربي ، قدم الشعب الفلسطيني خلاله أقصى ما يمكن أن يقدمه شعب مستميت في البسالة والتضحية والثبات والصبر .. وكانت بداية الإضراب حين قرر أهل يافا في إجتماع عقده فريق منهم في 20 أبريل ، الإضراب العام " برا وبحرا" وأصدروا بيانا وافقت عليه جميع المدن والقرى في فلسطين ، وشمل الإضراب جميع مرافق الحياة الإقتصادية والإجتماعية ، فأغلقت جميع المخازن والمصانع والمقاهي ، وتوقفت الحركة التجارية ، فلم يرق ذلك لحكومة الإنتداب البريطاني، وحاولت إرغام التجار على فتح مخازنهم ، فنقلوا بضائعهم إلى بيوتهم ، وكتب عدد منهم على مخازنهم " برسم الإجار والمخابرة مع الحكومة !! " وعزم آخرون على تسليم مفاتيح المخازن إلى الحكومة إن أصرت على فتحها ، وقرر المحامون العرب في إجتماع عقدوه في مدينة " يافا " الإضراب ، وعدم حضور المحاكمات إلا للمرافعة في القضايا الناشئة عن الإضراب والحركة الوطنية ، وعقد رؤساء البلديات إجتماعا سريا في بيت رئيس بلدية رام الله ، في 31 مايو وقرروا إيقاف أعمال البلديات ، وإستثنوا من ذلك أعمال التنظيف حفظا للصحة العامة ، إلا أن ( عمال الكنس ) أصروا على المشاركة في الإضراب ، وساءت حالة المدن ، فخابرت حكومة الإنتداب أحد مشايخ شرق الأردن ليرسل رجاله للقيام بأعمال "كنس " مدينة القدس ، فأجاب ذلك الشيخ قائلا : ليس رجالي أقل وطنية من " كناسي " مدينة القدس ..رغم أن تلك القبيلة كانت في فقر مدقع وحالة يرثى لها ،وكان المبلغ الذي عرضته عليها حكومة الإنتداب مغريا وكبيرا ، وخشيت الهيئات الوطنية من إنتشار الأمراض فأقنعت "الكناسين" بأن الواجب يطالبهم بالعودة إلى أعمالهم فعادوا إلى تنظيف المدن ليلا حتى لا يشوهوا الإضراب العام ..
وتركت الأحزاب السياسية تخاصمها ، وإجتمع رؤوساؤها وقرروا تأسيس " لجنة عربية عليا " لتوحيد القيادة ، وللإشراف على الحركة الوطنية ، وتألفت " اللجنة العربية العليا " من رؤساء الأحزاب الخمسة ، وخمسة آخرين من رجالات البلاد ، وكان أعضاؤها : الحاج أمين الحسيني ، راغب النشاشيبي ، أحمد حلمي عبد الباقي ، الدكتور حسن الخالدي ، يعقوب فراج ، عوني عبد الهادي ، عبد اللطيف صلاح ، الفرد روك ، جمال الحسيني ، ويعقوب الغصين .. وانتخب السيد أمين الحسيني "مفتي فلسطين " رئيسا ، والسيد أحمد حلمي عبد الباقي أمينا للصندوق ، والسيد عوني عبد الهادي سكرتيرا وأعتقل السيد عوني فانتخب مكانه السيد دووزة ، وأعتقل أيضا ، فانتخب السيد فؤاد سابا خلفا له .. وأخذ الإضراب السلمي يتسع رغم تعسف البوليس البريطاني واعتداءاته على الشعب الفلسطيني ، والتمادي في سياسة الإعتقال والحبس .. وظهرت عمليات مسلحة للمقاومة الفلسطينية قادها الشيخ عزالدين القسام والذي أستشهد في معارك الثورة ، وحمل معظم القرويين وكثير من أهل المدن السلاح ، وأخذوا يقاومون القوة بالقوة ، وكان القتال في كل مكان في الليل والنهار، وتصاعدت حدة المواجهة في منطقة القدس " معركة باب الواد " ، و في سائر فلسطين : " معركة نور شمس " ، و " معركة عين جارود " ، و" معركة وادي عزون " ، و "معركة بلعا الأولى" .. وعندما دخل فوزي القاوقجي فلسطين في الثلث الأخير من شهر أغسطس 1936 ، دخلت الثورة في دورها الثاني ، وبعد أن استلم الجنرال ( ديل ) القيادة العليا للقوى البريطانية في فلسطين وشرق الأردن وجعل مركزها القدس ، ودارت معارك " نور شمس عنبتا " ، و" ترشيحا " و" جبع " ، و" حلحول " ، ومعركة برقة ـ بيت أمرين ، ومعركة الخضر، ومعركة كفر صور ، وغيرها .. وتمددت ثورة شعب متوحد الصفوف دفاعا عن سيادة فلسطين عربية ، وإنقاذها من مطامع الصهيونية .. ولجأت حكومة الإنتداب البريطاني إلى عنف المواجهة ، وفرض الغرامات ، ومصادرة الأموال والأملاك ، والتفتيش وإلقاء القبض والإعتقال لمجرد الشبهة ، وتم نسف قسم كبير من مدينة يافا القديمة ، وأحرق اليهود عشرات المنازل للعرب معظمها في منطقة تجاور تل أبيب .. وتأججت نيران الثورة ، وتدخل ملوك العرب وأمرائهم ، بتوجيه نداء إلى اللجنة العربية العليا ، بإعطاء فرصة للحكومة البريطانية لإعادة تقييم الأمور ، وإستجابت اللجنة العربية العليا في 31 أغسطس1936 لنداء الوساطة العربية ، وهذا نصه : " إلى أبنائنا عرب فلسطين ، لقد تألمنا كثيرا للحالة السائدة في فلسطين ، فنحن بالإتفاق مع إخواننا ملوك العرب والأمير عبد الله ، ندعوكم للإخلاد إلى السكينة حقنا للدماء ، معتمدين على حسن نوايا صديقتنا الحكومة البريطانية ورغبتها المعلنة لتحقيق العدل ، وثقوا بأننا سنواصل السعي في سبيل مساعدتكم " !! ولم تفعل الحكومة البريطانية الصديقة للعرب شيئا ، وعادت نيران الثورة تتأجج مرة أخرى ،وتواصلت على مدى ثلاث سنوات ، حتى أضطرت الحكومة البريطانية إلى عقد مؤتمر دولي في لندن سنة 1938 بمشاركة بعض الدول العربية ، وأصدرت بريطانيا " كتاب أبيض " سنة 1939 يشرح تصورها لحل المشكلة الفلسطينية ، ويتضمن إستقلال مشروط لدولة فلسطينية بعد فترة إنتقالية مدتها عشر سنوات ، مع السماح بدخول 15 ألف مهاجر يهودي كل سنة إلى فلسطين لمدة خمس سنوات !!
وهناك إضافة تستدعي نفسها ، وبكل طرافتها المثيرة للدهشة والتأمل ، وإن كانت كاشفة في جانب منها لصورة الأحوال العربية التي صاحبت عقد مؤتمر فلسطين في لندن سنة 1938 وكانت الدول العربية المستقلة ثلاثة هي ، مصر والسعودية واليمن ، وكان الأمير محمد عبد المنعم رئيسا لوفد مصر ، ويساعدة على ماهر باشا ، ويرأس الوفد السعودي الأمير فيصل ، ويرأس الوفد اليمني الأمير سيف الإسلام أحمد ، ويروى الدكتور السيد أبو النجا ، وهو شاهد عيان حين إستعان به الوزير السعودي الشيخ حافظ وهبة ليقوم بالترجمة ، أثناء تواجده في لندن في بعثة دراسية : أن اللحظات الأولى من جلسة افتتاح المؤتمر الدولي ، شهدت احتجاج الوفد اليمنى على أن مكانه بعد الوفد السعودى ـ وكان بين المملكتين خلاف ـ وتدخل على ماهر شارحا للأمير سيف الإسلام أن ترتيب الوفود بحسب الحروف الأبجدية ، ولكنه لم يقتنع ، فتنازل الوفد المصري عن مكانه للوفد اليمني ، وانتهت المشكلة ، وألقى وزير الخارجية البريطاني " إيدن " كلمته ، ورد عليه على ماهر باشا باسم الوفود العربية ، وفجأة وقف الأمير سيف الإسلام ، دون أن يدعوه أحد ، وقال : " أيها السادة ، إن الخلاف القائم بين الإنجليز والعرب ، سببه العفاريت !! " وكانت المفاجأة صادمة بالدهشة والحيرة والإرتباك لأمين عام الوفد اليمني الدكتور أحمد فريد رفاعي ، ولكنه تصرف بسرعة ، وقف يتحدث كأنه يتولى ترجمة كلام الأمير ، وقال : " إن حسن النية كفيل بإزالة سوء التفاهم بين الإنجليز والعرب " وواصل سيف الإسلام كلامه : " إن العفاريت ألقت علىّ الطوب مرة ، فرددت في سرى ( قل هو الله أحد الله الصمد ) فجرت العفاريت وجريت في إثرها وأنا أقول ( لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ) حتى اختفت " وهنا ترجم فريد رفاعي قائلا : " إنه مهما يكن من اختلاف وجهات النظر فإن على كل طرف أن يضع في اعتباره وجهة نظر الطرف الآخر ، لتلتقى النظرتان عند حل مشترك " . واستعد سيف الإسلام لكى يستأنف كلامه ، فنظر فريد رفاعى إلى على ماهر باشا ، وقال له : " أنا استنفدت كل ما عندى من اختلاقات فأسعفنى ياباشا " فقام على ماهر وربت على كتف سيف الإسلام راجيا أن يجلس ، ولكنه أبى وخرج غاضبا من المؤتمر ، وكان الصحفيون يقفون في الخارج ، وعندما رأوا الأمير يخرج مبكرا ، سألوا فريد رفاعى ، وكان معه ، عن السبب ، فقال " إن سمو الأمير يرفض أن يساوم على حقوق العرب " وظهرت الصحف البريطانية في الصباح وعلى صدرها هذا العنون " أمير اليمن لايقبل التفاوض في حقوق العرب " !!
.....
كانت الثورة الفلسطينية مفاجأة قاسية لسلطة الإنتداب البريطاني، ومفاجأة صادمة لحركة الإستيطان الصهيوني ، وقررت الحكومة البريطانية أن تبعث بلجنة تحقيق تتقصى أسباب الثورة ، وجاءت اللجنة برئاسة اللورد " بيل " وأصدرت توصية بتقسيم فلسطين إلى دولة يهودية ، ودولة عربية يتم دمجها مع شرق الأردن ، على أن يظل الإنتداب البريطاني قائما عبر الضفتين ، ورفضت قيادة الثورة الفلسطينية إقتراح التقسيم ، وطالبت بإنشاء دولة فلسطينية واحدة مستقلة توفر الحماية والحقوق المشروعة لليهود وغيرهم من الأقليات .. واستمرت الثورة تهز فلسطين ، وقدم الشعب الفلسطيني خمسة آلاف شهيد في معاركها..
والحركة الوطنية الفلسطينية ، مرت بثلاث مراحل ، كانت القيادات السياسية تمثل نمطا معينا ، فالأولى كانت بالإنتخاب ، والثانية كانت بالإئتلاف الحزبي ، والثالثة كانت بالتعيين .. وإمتدت المرحلة الأولى بين عامي 1920 ـ 1934 ، وكانت القيادة خلالها منبثقة عن المؤتمرات الوطنية الفلسطينية وعن طريق الإنتخاب ، وقد سميت هذه القيادة باللجنة التنفيذية العربية منذ المؤتمر الفلسطيني الثالث ( 1920 ) برئاسة موسى كاظم الحسيني .. وإمتدت المرحلة الثانية بين عامي ( 1936 ـ 1939 ) وكان من الملاحظ أن الساحة الفلسطينية قد خلت من وجود قيادة وطنية علنية مسئولة بعد إنحلال قيادة اللجنة التنفيذية سنة 1934 ، واستمر هذا الوضع طوال سنتين حتى تشكلت اللجنة العربية العليا مع بداية الإضراب الشامل الذي عم البلاد منذ التاسع عشر من شهر إبريل عام 1936 وكانت اللجنة العربية العليا برئاسة الحاج أمين الحسيني .. وبدأت المرحلة الثالثة عام 1946 بتشكيل الهيئة العربية العليا لفلسطين بقرار مجلس جامعة الدول العربية على مستوى رؤساء الحكومات ، والذي عقد في مصيف "بلودان " ـ قرب دمشق ـ ما بين الثاني عشر والثامن عشر من يونيو1946 ، وتم تشكيل الهيئة العربية العليا لفلسطين من أربعة أعضاء ، إثنين من اللجنة العربية العليا ، وإثنين من الجبهة العربية العليا، على أن يحتفظ الحاج أمين الحسيني برئاسة الهيئة الجديدة ، وجمال الحسيني نائبا للرئيس ،والدكتور حسين الخالدي سكرتيرا ، وأحمد حلمي عبد الباقي وأميل الغوري من الأعضاء ، وقد ضمت الهيئة فيما بعد أعضاء آخرين ، وأنشأت الهيئة العليا مكاتب وكان أول مكتب لها مكتب القاهرة كمقر للرئاسة ، ومكتب القدس حيث الأمانة العامة للهيئة العربية العليا ، كما أنشأت الهيئة العربية العليا مكاتب لها في كل من دمشق ، وبيروت ، وبغداد ، ولندن ، وباريس ، ونيويورك ..وجاء إختيار المكتب الرئيسي في القاهرة بسبب إستحالة عودة الحاج أمين الحسيني إلى القدس ، وداوم العمل فيه الرئيس والأعضاء ، كما أقامت الهيئة في القاهرة مركزا لصيانة الأسلحة على جميع أنواعها ، وإنشاء بعض الدوائر واللجان في كل من مكتبها في القاهرة والقدس ، ومن هذه الدوائر واللجان : دائرة الأراضي ، دائرة الشئون السياسية ، دائرة الشئون الإقتصادية ، دائرة الدعاية والنشر ، والدائرة المالية ، دائرة الإغاثة والإسكان ، وأنشأت الهيئة في القدس دائرة تنظيم الشباب ، ودائرة الشئون الداخلية ، ودائرة الإصلاح وتوحيد الصف الوطني .. وحين تأزمت الأمور في فلسطين بعد قرار التقسيم عام 1947 طالبت الهيئة بتسليح الفلسطينيين وتدريبهم وإمدادهم وتمكينهم من منازلة الأعداء ، وكانت الهيئة ترى أن الشعب الفلسطيني أعرف بمواطئ أقدامه وله خبرة بتضاريس أرضه ، وفي الخامس والعشرين من ديسمبر 1947 ، تألفت في "صوريف " قوة من الشباب المتحمسين للقتال سميت بـ ( قوات الجهاد المقدس ) بقيادة عبد القادر الحسيني ، وخاضت عدة معارك غير متكافئة في ظل الدعم الخارج لليهود ، وأستشهد القائد العام عبد القادر الحسيني .. وكان التنظيم السري للضباط الأحرار في مصر ، يتابع تطورات الأوضاع داخل فلسطين ، وبإقتناع بأن القتال في فلسطين ، ليس إنسياقا وراء عاطفة ، وإنما هو واجب يحتمه الدفاع عن النفس .. ويقول الزعيم العربي الراحل جمال عبد الناصر ، في كتابه " فلسفة الثورة " أنه عقب صدور قرار تقسيم فلسطين في شهر سبتمبر 1947 ، عقد الضباط الأحرار إجتماعا ، واستقر رأيهم على مساعدة المقاومة الفلسطينية ، وذهبت في اليوم التالي أطرق باب بيت الحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين ، وكان ما يزال يعيش في حيّ الزيتون ، وأقول له : أنكم في حاجة إلى ضباط يقودون المعارك ، ويدربون المتطوعين ، وفي الجيش المصري عدد كبير من الضباط يريد أن يتطوع ، وهم تحت أمرك في أي وقت تشاء .. وقال ليّ الحاج أمين الحسيني : أنه سعيد بهذه الروح ، ولكنه يرى أن يستأذن الحكومة المصرية قبل أن يقول شيئا ، وسوف أعطيك رديّ بعد إستئذان الحكومة .. وعدت إليه بعد أيام ، وكان رده ، وهو الرد الذي حصل عليه من الحكومة ، هو الرفض .. ولم نسكت ، وبعدها كانت مدفعية أحمد عبد العزيز تدك المستعمرات اليهودية جنوبي القدس ، وكان قائد المدفعية هو كمال الدين حسين عضو اللجنة التأسيسية للضباط الأحرار .. "
وكانت الحركة الصهيونية قد شدت كل إمكانياتها على الآخر ، سواء في مكامن التأثير السياسي في أوروبا وأمريكا ، أو على أرض فلسطين ذاتها بما أمكن تحقيقه من واقع على الأرض سواء بحركة الهجرة أو الإستيطان أو بناء القوة العسكرية ، وأدرك قادة الداخل في الوكالة اليهودية ، وعلى رأسهم "دافيد بن جوريون " ، أن موجات الهجرة الكبيرة التي ينتظرونها من أوروبا لن تتحقق إلا إذا كان الوطن القومي اليهودي في فلسطين حقيقة قائمة ، وأن الهجرة لن تصل إلى المستوى اللائق إلا إذا كانت هناك دولة بالفعل ، وكان كل شئ مباحا في سبيل تحقيق مشروع الدولة اليهودية على الأرض الفلسطينية ، وكانت الحركة الصهيونية المتسارعة في هذا الإتجاه تطرق كل الأبواب دون أية محاذير ، وتتخطى كل العقد المستحكمة في الفكر الصهيوني وبإعتبار أن الغاية تبرر الوسيلة ، وهي الحقيقة التي تناولها الكاتب البريطاني " جيم الينز " في مسرحية ( الهلاك ) والتي أغلقت في وجهها دور العرض ورفض أكثر من أربعين مسرحا في لندن عرضها في نهاية الثمانينيات ، والمسرحية تعرض التواطؤ بين الصهيونية والنازية خلال الحرب العالمية الثانية ، وتبرز أوجه التعاون بين اليهود والنازيين في "بودابست " حيث كان قادة الحركة الصهيونية على إستعداد لتقديم كل ما هو ممكن من أجل تعزيز مطالبهم بالحصول على دولة خاصة بهم بعد انتهاء الحرب !!