وفيما انتصر الباحث البارز الدكتور وحيدعبد المجيد لموقف الدكتور جابر عصفور- رأى
وزير الثقافة وصاحب كتاب "التنويروالدولة المدنية" أن العديد من أعلام الأزهر هم
تنويريون بالمعنى الذي يقرن التنوير بإعمالالعقل, كما يقول الإمام محمد عبده,
مؤكدا أن إعمال العقل لا يتناقض مع النصالديني.
ودافع عصفور في سياق مساجلاته مع وكيل الأزهرالدكتور عباس شومان عن مجلات وزارة الثقافة,
معتبرا أن "خطابها هو خطاب الإسلامالمستنير الوسطي المعتدل مع احترام الاختلاف
وتأكيد حق الاجتهاد الحر واحترام نصوص الدستورالخاصة بحرية الرأي والاعتقاد
والتفكير والإبداع".
وشدد عصفور على أن الأزهر الشريف"أنتج الحركة الأولى للثقافة والتنوير", وقال: "لا
نرضى بانفصال الثقافة عن الأزهر ولا بحدوثصدام بين وزارة الثقافة والأزهر الشريف
أو أن تكون هناك فجوة بينهما", فيمااقترح عودة الحوارات والنقاشات بين المثقفين
وعلماء الأزهر.
ونوه عصفور بأن الأزهر يرأسه "شيخجليل واسع الأفق لا يكف عن أداء دوره التنويري الذي
يؤكد القيم العقلانية للفكر الاسلامي ويمضيفي السنة الحميدة التي تواصل فتح
أبواب الاجتهاد", مشيرا إلى أن الاختلاففي الرأي "لازمة من لوازم فتح أبواب الاجتهاد",
فيما أكد أن "جموع المثقفين ترى فيالأزهر حصنا أمينا للإسلام الوسطي المستنير".
وأخذ الدكتور عباس شومان في سياق تناوله"صراع الخطابات الدينية في مصر", على الدكتور
جابر عصفور افتقاره "لعلم آداب البحثوالمناظرة" الذي يدرس بالأزهر", والتباس
"مفهومه عن التنوير والعقل",وما إذا كان هذا العقل هو "العقل الماركسي المادي أم
العقل الليبرالي الوضعي أم عقل ما بعد الحداثةأو هو العقل الإسلامي الذي يقوم
تنويره على رباط العروة الوثقى بين الشرعوالعقل".
وانتقد شومان قول الدكتور جابر عصفور إن"الدساتير الحديثة تقوم على فصل الدين عن
الدولة في كل مجالات الحياة", معيداللأذهان أن دستور مصر ينص على ان "دين الدولة
الرسمي هو الاسلام", لينهي رده الأخيروالحافل بالمآخذ ذات الطابع الديني بتساؤل
عن حقيقة ما ذكره عصفور من "أن المعتمدفي خطاب وزارة الثقافة هو خطاب الإسلام
المستنير المعتدل".
وتدخل الدكتور أحمد مجاهد, رئيس الهيئةالمصرية العامة للكتاب, في هذه المعركة الثقافية
بين وزير الثقافة ووكيل الأزهر الشريف الذيكان قد انتقد بشدة كتابا صدر هذا
العام بعنوان "الخلافة الإسلامية"للمستشار محمد سعيد العشماوي عن مكتبة الأسرة
بهيئة الكتاب, فضلا عن ثلاث مقالات في العددينالأخيرين لمجلتي "فصول", و"الفكر
المعاصر", وهما من اصدارات الهيئةأيضا.
وأوضح مجاهد أن "مكتبة الأسرة"لها لجنة عليا من كبار المتخصصين يختارون كتبها ويوقعون
بالاجماع بالموافقة على نشرها وكان ممثلالأزهر بهذه اللجنة الدكتور محمود عزب
مستشار فضيلة الامام الأكبر الدكتور احمدالطيب والذي فقدته الحياة الثقافية المصرية
مؤخرا.
الخلافة الإسلامية
وقال رئيس الهيئة العامة للكتاب ان الهدفالأساسي لمؤلف كتاب "الخلافة الاسلامية"
محمد سعيد العشماوي كان تقديم رؤية تاريخيةوقراءة جديدة لقضية الخلافة في الإسلام
في العصور المختلفة لمواجهة "الشعاراتالتي تتنادى بها جماعات الاسلام السياسي
والتي شرعت في وضع فقه للخلافة يقوم علىتزييف الواقعات وتحريف الحادثات وحذف ما
لابد من ذكره وحشر ما لا سبب لوجوده وهيتلفق فكرا ولا تقدم فقها".
واعتبر الدكتور أحمد مجاهد أن هذا الكتابفي النهاية يحمل رؤية مؤلفه واجتهاداته
"وهي ككل اجتهادات قابلة للأخذ والرد",معيدا للأذهان أن سلاسل "مكتبة الأسرة" هي
التي نشرت الأعمال الكاملة لجمال الدينالأفغاني ومحمد عبده ورفاعة الطهطاوي وهي
مستمرة في نشر أعمال كبار علماء الأزهرالأجلاء.
ورأى مجاهد أن النصوص التي اقتبسها وذكرهاالدكتور عباس شومان انتزعت من سياقها, بينما
التأويل السليم لها يربطها بسياقها في النصالذي وردت به وهي سياقات تؤكد سماحة
الإسلام وكونه الدين العميق الذي لا يقفعند حدود الظواهرن فيما شدد على خطأ
القراءة المجتزأة, وأن "الثقافة هيوعي كامل بحدود النصوص وأعماقهان كما أنها الوعي
بالفكر ونقيضه".
وفيما وصف الدكتور يحيي الجمل نائب رئيسالوزراء الأسبق رد الدكتور عباس شومان على
وزير الثقافة بأنه "بالغ العنف",أوضح الدكتور جابر عصفور ان "الخطاب الديني ليس
هو الدين ونصوصه المقدسة وإنما ترجمة لفهمالبشر لهذه النصوص المقدسة وتأويلها",
معتبرا انه "لا يمكن أن يوجد خطابديني واحد وانما توجد خطابات دينية متعددة".
وكان الشاعر الكبير أحمد عبد المعطي حجازيقد أدلى بدلوه في هذه المعركة الثقافية
لينبه إلى أهمية "التمييز الحاسم بينالدين وبين الخطاب الديني", وليذهب إلى ان "الحوار
الدائر حول الخطاب الديني لم يبدأ اليوموانما بدأ في اللحظة التي انتقلت
فيها مصر من حال كانت تواصل فيه حياتهاالموروثة من العصور الوسطى وتحتكم فيه لثقافة
هذه العصور إلى حال أخرى تغيرت فيه حياتهاتغيرا جوهريا وتغيرت ثقافتها".
وقال حجازي: "في الخطاب الديني الجديدنعود للأصل, أي للجوهر الباقي, نستلهم ما في
الإسلام من طاقات روحية لا تنفد ومثل علياصالحة لكل زمان ومكان واجابات عن أسئلة
الحاضر اكثر بكثير من الاجابات التي قدمهالأسئلة الماضي وأقرب غلى روحه".
ونوه بأن الأزهر مؤسسة علمية عريقة, فيماتولى مشيخته علماء كبار جمعوا بين الثقافة
العربية الإسلامية والثقافة الغربية منامثال مصطفى المراغي ومصطفى عبد الرازق
وأحمد الطيب وظهر فيه مثقفون ثوريون يطالبونبالتجديد ويدافعون عن العقل وينحازون
للديمقراطية من أمثال علي عبد الرازق وخالدمحمد خالد.
أما الدكتور محمد عبد الفضيل القوصي, الأستاذبجامعة الأزهر ووزير الأوقاف الأسبق
فيقول إنه في كل قضية تحتمل تعدد وجهاتالنظر, يجد المتأمل نفسه بين طرفين يقف كل
منهما على النقيض من مقابله حيث يقوم كلمنهما بنفي الآخر وهدمه, موضحا أن التاريخ
الإسلامي مر في شتى عصوره بطرفين نقيضينحيال فهم نصوص الكتاب والسنة.
وأضاف القوصي أن الطرف الأول ركب متن الشططفي التمسك بمنهج الفهم الظاهري والحرفي
لتلك النصوص الكريمة دون الالتفات إلى أعماقها,بينما اتجه الفريق المضاد تحت لافتات
مثل التنوير والحداثة وما بعد الحداثة لمايسمى بالقراءلت الجديدة للنص القرآني
وفهمه فهما متحررا من دلالاته الاصطلاحية.
وانتقد القوصي الطرفين معا بشدة, معتبراأن الطرف الأول بمنطلقه الحرفي الضيق فتح
أبوابا واسعة من الشر المستطير في الفكروالتاريخ الإسلامي وغلب المظهر على الجوهر,
فيما انتهت هذه الحرفية إلى لعبة السياسةبالتوظيف المغرض للنصوص والالتواء بها
عن مقاصدها السامية.
أما الطرف الثاني, حسبما وصفه الدكتور محمدعبد الفضيل القوصي, فهو يمارس الافتئات
ليس على الدين وحده وانما أيضا على مصطلحالدولة المدنية ويشوه صورتها عندما يدعو
إلى "دولة مدنية لا دين لها", وكأن مدنية الدولة لا تقوم لها قائمة إلا حين تنتزع
الدين من مكانه ومكانته.
وأعاد القوصي للأذهان مغزى المقولة العربيةالحكيمة: "أن الضد يغري بالضد" وأن الغلو
يبعث على مزيد من الغلو, لافتا إلى أن"الوطن لا يحتمل المزيد من اللهب والشرر",
فيما خلص إلى أننا في "أشد أزماننااحتياجا إلى خطاب ديني رشيد نمسك فيه بجمع
اليدين على الحد الوسط الذي يجمع محاسنالأضداد وينأى عن مساوئها جميعا, فلا تهدر
قطعيات الشرع لحساب ظنيات العقل, ولا تهدرأيضا يقينيات العقل لحساب الفهم الحرفي
للنصوص".
وبالتزامن مع هذه المعركة الثقافية توالتطروحات لمثقفين مصريين تعدد مناقب الدكتور
محمود عزب المستشار الراحل لشيخ الأزهرالذي قضى مؤخرا, فيما عرف بقدراته الثقافية
رفيعة المستوى ودفاعه عن الأزهر الشريفباعتباره "مدرسة الوسطية في الإسلام".
والدكتور محمود عزب الذي ناقش أطروحته للدكتوراهفي جامعة السوربون بباريس كان ينتمي
لمدرسة "تحريض العقل على التفكير معالتمسك بثوابت الدين الحنيف", فيما شملت محاضراته
اغلب جامعات دول العالم الاسلامي من المغربحتى باكستان كما ارتبط بعلاقات
طيبة مع بعض المستشرقين مثل جاك بيرك.
وهو أيضا المبدع والشاعر صاحب ديوان"أما بعد", وصاحب الاهتمام الثقافي والأكاديمي
العميق بالفلسفة الاجتماعية عند ابن خلدون,وبقدر ما حفظ آلاف الأبيات من الشعر
العربي, كان يقرأ الشعر الفرنسي ليشكل طرازافريدا للمثقف المصري في عمق وثراء وتنوع
ثقافته.
وكان وزير الثقافة الذي وصفه يحيي الجملب"حارس التنوير", قد عرض على الامام الأكبر
الدكتور احمد الطيب مشاركة الأزهر بعلمائهفي الأمسيات الرمضانية التي تقام بدار
الأوبرا مع دعاة من وزارة الأوقاف"لتقديم وجهة نظر الاسلام الوسطية في قضايا الاستنارة
والدولة المدنية".
وفيما بات الأزهر الشريف في بؤرة اهتمامالمصريين الذين يتطلعون لغد أفضل وفي قلب
الجدل المتعلق بأعمال العنف, فإن ثمة حاجةلتأمل الدور الثقافي للأزهر واستعادة "صفحات
جميلة" كتبها الأزهر في الحياة الثقافيةالمصرية.
ونظرة لقائمة المجد المرصعة بأسماء الآباءالثقافيين المصريين تكشف فورا عن ان الكثير
منهم انتموا للأزهر الشريف, مثل رفاعة الطهطاويومحمد عبده وعلي عبد الرازق ومصطفى
عبد الرازق وخالد محمد خالد ومحمد متوليالشعراوي, وصولا للأمام الأكبر شيخ
الجامع الأزهر السادس والأربعين الدكتورأحمد الطيب.
وواقع الحال يؤكد أن التاريخ الثقافي للأزهروالأزهريين واهتمام المصريين بمواقف الأزهر
في اللحظات الفارقة هو أمر يكاد يكشف بجلاءعن حقيقة ان المصريين لا يمكن ان
يخاصموا هويتهم وينسوا تدينهم, بقدر ماهم يرفضون التطرف لأنه يجافي الوسطية التي
تعد سمة أصيلة من سمات الحياة المصرية واحتفالالمصري بالحياة رغم كل المنغصات
وأي كروب.