القاهرة 03 يوليو 2014 الساعة 12:44 م
عمل أبى فى بداية حياته (فرانــًا) فى فرن شقيقه الحاج متولى . ثم ترك الفرن واشترى عربة يد خشبية يضع عليها العيش ويوزعه على الزباين فى البيوت . وبعد عدة سنوات (فى منتصف الخمسينات من القرن العشرين) استأجر دكانًا يبيع فيه العيش والجاز والصابون . ومع مرور الأيام صار محل بقالة (بحق وحقيق)
لم ينس أبى بداياته الأولى . كان يُصر على توزيع العيش على البيوت . وكنتُ أنا الابن وصبى المحل . فى أيام الدراسة أوزع العيش قبل الذهاب إلى المدرسة. واستكمل الباقى بعد الظهر.
أذكر وأنا فى الخامسة عشر بدأتُ التمرد . عذبنى الجمع بين الابن/ التلميذ ، والصبى موزع العيش . نتج عن هذا التمرد (علقة سخنة) من أبى أمام المحل . يتصادف مرور عمى الحاج متولى . ينهال على أبى لومًا وتعنيفــًا. ثم يصطحبنى معه إلى بيته. بنى عمى عمارة من خمسة طوابق . كنتُ أمر من أمامها وأنا أوزع العيش على البيوت المجاورة لها. ولكنها كانت المرة الأولى التى أدخل فيها شقة عمى ، الذى أصرّ على أن أدخل الحمّام وأغسل وجهى وأكف عن البكاء . احتضنتنى زوجة عمى وأجلستنى بجوارها على مائدة الطعام . وأذكر أن المائدة الطويلة اتــّسعتْ لأبناء عمى الثمانية. كما أذكر خجلى وأنا لا أقوى على النظر فى وجوههم . فى المساء أخذنى عمى إلى أبى وقال له ((عامل الواد بحنيه. وكفايه إنه بيروح المدرسة وبيساعدك فى توزيع العيش . وإياك تنسى إنه يتيم الأم)) قال عمى الجملة الأخيرة بصوت خافت . ويبدو أنه كان يود أن لا أسمعه. ولا أدرى (بعد عشرات السنين) أية قوة استشعار سمعية جعلتنى ألتقط كلماته الأخيرة التى انطبعتْ فى ذاكرتى وطبعتْ معها وجدانى . ومن هذه الكلمات ومنذ هذا اليوم تخلــّـق داخلى المفتاح لفهم شخصية عمى الحاج متولى .
وأنا استعيد ذكريات هذا اليوم ، تتجمع التناقضات داخلى . ثم تنجدل فى ضفيرة واحدة . وكأنّ كل ضفيرة تـُكمل أختها. استحوذتْ مائدة الطعام على تفكيرى لعدة سنوات . إذْ لأول مرة أرى اللحوم الحمراء تجاورها (الفراخ المحمرة) وعندما شممتُ رائحة السمك المقلى ، ظننتُ أنّ الرائحة تأتى من شقق الجيران ، فإذا به أمام عينىّ اللتيْن زاغتا بين أصناف الخضار والأرز والسلطات والزيتون الأخضر والأسود . ولكن ما حيّرنى هو البيض المسلوق . ظللتُ لعدة سنوات استعيد تفاصيل المائدة . وعندما بلغتُ العشرين لم أكن قد قرأتُ حرفــًا لكارل ماركس . ولم أقرأ أو أسمع عن (التفاوت الطبقى) ومع هذا كنتُ أشعر أنّ شيئــًا ما خاطئــًا يصنع هذا التفاوت بين أبناء المجتمع الواحد . وقبل أنْ أكمل الثلاثين كنتُ قد قرأتُ كثيرًا فى الماركسية ، فتعاظم لدىّ الإحساس بالمنظومة السياسية والاجتماعية الخاطئة. تولــّـد عن هذا الإحساس صراع داخلى تجاه عمى : فقد أنقذنى من (ثورات) أبى ضدى أكثر من مرة . وشجّعنى لألجأ إليه كلــّما غضب أبى منى . وعندما عاد من الحج أول مرة وكنتُ فى العاشرة ، لبستُ من يديه أول بدلة حرير بيضاء (شركسكين) فى حياتى . رغم كل ذلك وقفتْ مائدة الطعام حائلا بينى وبينه. تأتى صورة المائدة فتطغى على صورة العم الحنون وتشوّهها. واستمر هذا الصراع داخلى لعدة سنوات دون حسم ، إلى أنْ جاءتْ لحظة وفاة أبى .
كان لدى أبى طموح أنْ يُصبح صاحب فرن مثل أخيه ، فشارك اثنيْن من الفرانين فى ملكية فرن مشترك . لم ينجح المشروع وخسر أبى نقوده . ثم دخل فى مغامرات تجارية أخرى ، فكان يسحب الأموال من الدكان لصرفها على مشروعات غير مأمونة. وبدأ المحل يخلو من البضاعة. ويوم أنْ مات أبى كانت الرفوف خاوية تمامًا. وكنــّـا نكتفى (أنا وأخواتى) ببيع العيش والجاز .
بعد أنْ انصرف المعزون جلس عمى متولى بجوارى . وضع مبلغــًا كبيرًا فى يدى . عندما أبديتُ رفضى قال بصوت مازال يتردد داخلى ((إنتَ كبير إخواتك . وإنتَ المسئول عنهم . خد الفلوس وماتبقاش عبيط . إملا الدكان بالبضاعة. ولما تعوز أى حاجه تعال لى)) .
***