القاهرة 09 يونيو 2014 الساعة 01:31 م
زهور هذا البستان من نوع خاص تمتص رحيق الشعر فيفوح منها عبيره الأخاذ،وطربه الشجي ، وكل زهرة تحمل اسم شاعر من الأندلس، كل شاعر له حكاية قد تكون حكاية حب وما أروع الحب وحكاياته ،فسرت أتنزه في هذا البستان أتنشق زهرات فواحة أشم رائحتها البهية، وقبل أن أخرج التفت لزهرة يانعة تحمل اسم شاعر وجداني يعد عاشقا كبيرا عاش بالحب وللحب إنه الشاعر (العاشق) ابن زيدون القرطبي ت:463هـ ،وقد ذاق وله الحب وآهات الشوق ولوعة الفراق وألم الجوى والحرقة من محبوبته الأميرة ولادة بنت المستكفي بالله، آخر الخلفاء الأمويين في القرن الحادي عشر الميلادي ،فنجده يرسل لها معبرا عن تباريح الهوى بقصيدته النونية التي يقول فيها :
أضْحَى التَّنَائِي بَدِيْلاً مِنْ تَدانِيْنا وَنَابَ عَنْ طِيْبِ لُقْيَانَا تَجَافِيْنَا
ألا وقد حانَ صُبح البَيْنِ صَبَّحنا حِينٌ فقام بنا للحِين ناعِينا
مَن مُبلغ المُبْلِسينا بانتزاحِهم حُزنًا مع الدهر لا يَبلى ويُبلينا
أن الزمان الذي ما زال يُضحكنا أنسًا بقربهم قد عاد يُبكينا
غِيظَ العِدى من تساقينا الهوى فدعوا بأن نَغُصَّ فقال الدهر آمينا
فانحلَّ ما كان معقودًا بأنفسنا وانبتَّ ما كان موصولاً بأيدينا
لم نعتقد بعدكم إلا الوفاءَ لكم رأيًا ولم نتقلد غيرَه دينا
وما زالت الآلام لا تسكن كأنها أنفاس حارة ملتهبة تبرز شوق الشاعر ولهفه وهيامه وموته حبا ووجدا في محبوبته يقول أيضا:
حالت لفقدكم أيامنا، فغدت سوداً وكانت ـ بكم ـ بيضا لياليناً
إن الزمان ـ الذي ما زال يضحكنا أنساً بقربكم ـ قد عاد يبكينا
لا تحبسوا نأيكم عنّا يغيّرنا إن طالما غيّر النأيُ المحبينا
وقد يقول قائل لماذا كل هذا العناء من الشاعر ،وقد نجح في تحقيق مكانة كبيرة على المستوى المهني فكان وزيرا شاعرا مفلقا في عصره ، ولكن هذه المكانة العظيمة لم تجعله ينس حبه الذي أذاب به كل ألفاظ العشق ، والذي كان ملجأ لإثارة الغيرة والحقد على القلبين المتحابين سواء من الوزير ابن عبدوس الذي أحب ولادة وسعى للتفريق بينها وبين ابن زيدون أو لفورة كثير من الإضرابات السياسية في عصر الشاعر ،نجده لم يدع حبه الذي اكتوى بنيرانه وتنفس لهيب زفراته فيستجدي محبوبته فيقول لها:
أيوحشني الزمان وأنت أنسي ويظلم النهار وأنت شمسي
وأغرس في محبتك الأماني جني الموت من ثمرات غرسي
فصاغ لنا قيثارة حب كسمفونية عظيمة شدت بأعذب الألحان،فكانت قصة حبه من أروع قصص الحب في الأندلس.
وإذا كان ابن زيدون عاشقا يغلب على شعره معاني الحب المتدفقة المنسابة كأنها في نهر جارِ ،فقد برع أيضا في كل فنون الشعر المختلفة فنجده يمدح مؤسس الدولة العبّادية بالأندلس (المعتضد بن عباد) فيقول:
أَعَبّادُ يا أَوفى المُلوكِ بِذِمَّةٍ وَأَرعاهُمُ عَهداً وَأَطوَلَهُم يَدا
تَبايَنتَ في حالَيكَ غُرتَ تَواضُعاً لِتَستَوفِيَ العَليا وَأَنجَدتَ سودَدا
وَلَمّا اِعتَضَدتَ اللَهَ كُنتَ مُؤَهَّلاً لَدَيهِ لِأَن تُحمى وَتُكفى وَتُعضَدا
وَجَدناكَ إِن أَلفَحتَ سَعياً نَتَجتَهُ وَغَيرُكَ شاوٍ حينَ أَنضَجَ رَمَّدا
وَكَم ساعَدَ الأَعداءُ أَوَّلَ مُطمَعٍ رَأَوكَ بِعُقباهُ أَحَقَّ وَأَسعَدا
فَلا ظافِرٌ إِلّا إِلى سَعدِكَ اِعتَزى وَلا سائِسٌ إِلّا بِتَدبيرِكَ اِقتَدى
ما أروعه من شاعر صنع مجدا شعريا خالدا من زفرات أنفاسه الحارة ولهيب قلبه المتقد.