القاهرة 22 مايو 2014 الساعة 11:35 ص
أمس كانت الليلة الكبيرة لمولد السيدة زينب ـ رضى الله عنها وعن أبويها وصلى وسلم على جدها ـ وكالعادة ذهبت ومشيت وشاركت فى الحضرة وأكلت من النفحات!.. إذ تربيت بين أهل عشقوا الموالد وحضرات الذكر، ونذروا النذور وسافروا المسافات الطوال إلى طنطا ودسوق والشهداء والقاهرة ووادى حميثراء، حيث ضريح أبى الحسن الشاذلى!
ولقد عشت فى حى السيدة زينب عند التحاقى بالجامعة عام 1963، وسكنت فى شارع الوابور بمربع البغالة، حيث شارع الشيخ البغال وعطفة الشيخ البغال والشارع الرئيسى هو شارع زين العابدين، وكنت أمضى مشيا إلى الميدان لأستقل أتوبيس 9 إلى جامعة القاهرة.. وكم ضحكت ساخرا من نفسى لأننى ظللت سنين طويلة أقرأ اللافتة المعلقة فى الزقاق الواقع خلف قسم شرطة السيدة وأنطقها بالمعنى الذى فهمته، وكان الأقرب إلى ذهنى وحدود معرفتى آنذاك. فاللافتة هى «حارة قرة قول السيدة» وكنت أقرها «قرّة» قاف مضمومة وراء مفتوحة مشددة ثم «قول» قاف مفتوحة وواو ساكنة.. بما يعنى خلاصة أو لب ما قالته السيدة زينب! ولما عرفت أدركت أن «القرة قول» الذى هو بالعامية «الكركون» حيث إن قسم الشرطة كان هو القرة قول أو الكركون، وهو مصطلح عرفته وعايشته فى الجيش، وكم سمعت الأوامر بوضع فلان فى الكركون، أو يأتى الضابط ليقول للجندى أو صف الضابط المخطئ «حط نفسك فى الكركون»!
فى الموالد تتلاشى الفوارق ويتساوى الجميع، وكثيرا ما يتعمد الكبير والعظيم والمهم أيا كانت وظيفته «لواء أو مستشار أو أستاذ جامعة أو غيرهم»، أن يقوم بأصعب وأشق المهام، كأن يتولى تنظيف الميضأة بما فيها دورات المياه، أو يتولى ترتيب الأحذية والبلغ- جمع بلغة- والشباشب، أو يحمل صوانى الطعام وصوانى الشاى والقرفة!.. ويتقبل بروح صافية وابتسامة ضافية كل صعوبة يلقاها أو خشونة يتلقاها أو «شخطة» من مرتاد عابر يريد طعاما أو شرابا.
وفى الموالد ينال كل امرئ بغيته، أى يتحقق له ما جاء من أجله!!.. فمن جاء للصفاء الروحى وصلة رحم آل البيت أو حبا فى الحقيقة وتواصلا مع أقطابها وأبدالها وأشبالها ومريديها نال ما أراد.. ومن جاء للطعام والشراب المجانى شبع حتى أتخم.. ومن جاء للهو والمتعة بل للنصب والاحتيال وصلت بغيته إليه!
عشت مع الدراويش والمجاذيب وتمايلت جالسا وواقفا فى الحضرة، واستبد بى الوجد حتى خلت أننى تواجدت وخففت، وما إن ينته نقيب الحضرة من ضبط إيقاعها ومعه المنشد حتى يبدأ الذاكر فى الهدوء ثانية، وكأنه طائرة استجمعت كل طاقتها لتهبط إلى الأرض بعد يسر فى التحليق! وسمعت مبارزات بين من شطحوا فاختلف لسانهم ولم يعد ينطق العربية التى نعرفها، بل وفق تعبيراتهم انطلق فى «السرينة» أى النطق باللسان السريانى.. ثم اقتربت ممن قيل لى إنهم ذوو مقامات عالية، وكان منهم من هو على قدم أنبياء بنى إسرائيل.. يعنى موسوى المقام مثلا، أى أن له كرامات توازى معجزات النبى موسى.. وفى الاقتراب محاذير تصل إلى محذور الاحتراق كعلاقة الفراشة بالنار!!.. كما أن فيه محذور الافتتان وهلم جرا.. وكم من مرات تعرضت لما يسمونه المكاشفة، وخلت أن أسرارى كلها مكشوفة أمام بصيرة من أجلس فى حضرته، وأحيانا ما كان يلمح أو يصرح بما أقع فيه من فتنة أو معصية.. وأكبر وأخطر المعاصى عندهم هى التكبر الذى هو أصل كل المعاصى والبلاوى.
استمعنا من زمان للشيخ طه الفشنى ونصر الدين طوبار، ثم كانت علاقة القربى والود والألفة مع النقشبندى الذى كان مريدا بديعا لمولانا الليثى، وكم من مرات بعد ذلك الزمان اصطحبنى فرماوى لنسمع ياسين التهامى الأصلى.. وإذا افتقدناه ذهبنا إلى الذين يقلدونه حتى فى طريقة ربطة الرأس- أى العمامة الصعيدية البيضاء المميزة- وفى طريقة نطق أبيات الشعر، ولكننا نحس بالفرق ونكتشف أن التقليد مهما كان محكما فإنه لا يكون أبدا طبق الأصل معنى ومضمونا، لأن التهامى يجلى معانى ما ينشده من قصيد لابن الفارض أو ابن عربى أو الحلاج وغيرهم من سلاطين العاشقين أولى العزم من الأولياء!
ولقد تمنينا كثيرا أن تسرى الروح المصرية السارية فى الموالد إلى بقية مناحى حياتنا، لأن للموالد روحا غير ما يتوقف عنده كثيرون، واتخذوا منه عنوانا للفوضى والاختلاط وتدمير الضوابط والمعايير.
نعم فظاهر الموالد هو كذلك، ولكن جوهرها ومعناها عند أهلها المخلصين ليس كذلك بالمرة، فهى انضباط فى الاتساق بين الشريعة والتصوف ليحدث التحقق.. وهى انضباط فى الفعل ورد الفعل حتى لا يكون أى انفعال غاضب يضرب فضيلة الحب فى مقتل.. وهى سمو بالروح وتسام فى السلوك حتى لا تبقى لجاذبية الأرض وجذب الغريزة أى سلطة على الإنسان الذى يدرك أن تجلى إنسانيته يجعله أفضل من الملائكة أجمعين.
ولقد سئلت ذات مرة عن حكاية السيدة الأولى فى الحياة السياسية العامة فى مصر، وأجبت بأن مصر لم تعرف سوى ثلاث سيدات أولهن إيزيس والعذراء مريم والسيدة زينب.. وقدمت ما أستند إليه وهو شرح قد يطول، وسبق أن كتبت فيه وربما أعاود تنقيحه والزيادة عليه. ومد د مدد.. وشىء لله يا أم هاشم يا طاهرة.. يا أم العواجز يا كريمة.
a_algammal@yahoo.co.uk