القاهرة 19 مايو 2014 الساعة 01:16 م
أنا الآن في أوروبا..
خرجت من وطني باحثاً عن بقايا حياة، بعد مقتلي أمام عيناي..!!
هل تعتقد أن إسرائيل هي من قتلتني خلال إحدى حروبها على غزة..؟؟
لا..!!
هذا ليس تبريراً مني لإسرائيل...
إنما لاكتشافي أنني قتلت منذ زمن سحيق في ظل مجتمع انتمي إلي الصالحين منه..
كنت في السادسة عشر من عمري حين اندلعت الحرب على غزة عام 2008، كانت أصوات القذائف المتساقطة كحبات البرد المصاحبة للمطر تزيد من رعبي رعباً..
كنت أناظر السماء من نافذة منزلي الواقع جنوباً، لأرى الدخان المتصاعد كسحب ارتصت إيذاناً ببدء الشتاء.
انتصف اليوم الثاني للحرب وأنا جالس أمام الراديو مستمعاً للإذاعات المحلية صرحت بخبر مفاده أن قراراً صدر عن حكومة حماس التي تسيطر على غزة بالقوة العسكرية منذ عام قبل الحرب، بالإفراج عن كافة المساجين الذين لم تثبت إدانتهم حفاظاً على أرواحهم بعد تهديدات إسرائيلية بضرب كل ما يتبع لحماس.
لا أعلم لِمَ لَم أطرب لسماع هذا النبأ على الرغم أن أبي كان ضمن المسجونين الذين أعيد النظر مراراً في محاكمتهم لعدم كفاية الأدلة التي تثبت كونه جاسوساً لإسرائيل أم أن الأمر مجرد تهمة لتواجده في مكان عرضةً للاشتباه..
لا يهم..!!
ما يهم الآن أن صيتنا قد ذاع أننا أبناء جاسوس لإسرائيل حتى وإن ثبت بعد ذلك بطلان التهمة..
كان والدي متواجداً في محيط إحدى المقار الأمنية التابعة لحماس في ساعة تعرضه لغارة إسرائيلية، فكان ضمن المشتبه بهم في تحديد الموقع للطائرات الإسرائيلية، بعد علمي بذلك أدركت عظمة أبي الذي يرشد طائرة توصف كاميراتها بأنها أدق من عيني الإنسان.
لا يهم إن كان صدقاً أو غير ذلك..
ما يهم الآن أن صيتنا قد ذاع أننا أبناء جاسوس لإسرائيل، وصابون نابلس لن يغسلنا من خطيئة لا ذنب لنا بها حتى وإن ثبت بطلانها.
مرَ اليوم الخامس من الحرب بسلام، أجلس متوقعاً ظهور أبي بين لحظة وأخرى بعد النبأ الذي أذيع عدة مراتٍ في الراديو، لم أكن أشتاقه بقدر ما لدي من أسئلة لا تعداد لها، واعتقدت جازماً أنه لن يستخدم الكذب خلال إجاباته عليها.
كان رجلاً متواضعاً يعمل في شركة لتوزيع المشروبات الغازية بعد أن انقلبت حماس على السلطة الفلسطينية التي كان تحتويه كموظفٍ في أحد أجهزتها الأمنية، شيب شعر رأسه تموج بالسواد بعد أن وصل إلى نصف قرن إزدادوا خمساً من السنين، لا يساويه في ضخامة جثته سواي، أسفل ذقنه الطليقة ترقد شامة صغرى زادت من وقاره وقاراً.
لا أصدق حتى الآن أنه كما نعتوه حين منعونا من زيارته..
"أبوكم جاسوس، تبرءوا منه بعد أن جلب لكم العار"..
كلمات كان صداها عليَ كوقع مقصلة على رأس محكومٍ بالإعدام، شقت من رقبته جزءاً وبقي الجزء الآخر منازعاً الحياة.
ربما كان كما وصفوه فعلاً، بعيداً عن حقد جارٍ لنا، لم يدخر جهداً في أذية والدي انتقاماً، إذ كان يعتبر علاقة والدي بكبار القيادة في السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير دليلاً على خيانته وكفره، خاصة وأنه رأى مراراً مواكبهم الضخمة تصطف أمام منزلنا.
انتصف اليوم السادس للحرب دون بادرةٍ تقر بمجيء والدي، سجائري انتشر دخانها ليضاهي سحب الدخان المنتشرة في السماء جراء القصف، وأصبحت مضطراً للذهاب خلال ساعة الهدنة التي تم إعلانها ليتزود الناس باحتياجاتهم لشراء السجائر التي أصبحت احتياجي الوحيد بعد الحادثة.
لابد من التوجه لشراء السجائر وأنا الذي لا أطيق الخروج من المنزل رهبة من نظرةٍ مغزاها كبير من الجيران الذين انقطعت علاقتهم بنا تماماً...، من سيرتضى أن يكون صديقاً لابن جاسوس لإسرائيل..
حتى الفتاة التي لطالما غازلتها عيناي حباً، ما عادت تنتظرني على نافذة غرفتها المطلة على منزلنا.
لا فائدة من هذا الهراء الآن..!!
تشير عقارب الساعة إلى الخامسة مساءً، حان وقت الهدنة..، أمشي بين جنبات الطريق ليس خوفاً من غدر الطائرات كما قد يظن الناس، إنما هرباً من نظراتهم التي ترمقني كما ترمق كلباً أصابه حكاك الجرب، التصقت بجدار إلى جانب الطريق جعلت أسير بمحاذاته حتى أصل إلى الدكان الذي يبعد عن مكان سكناي، فأصحاب الدكاكين في منطقتنا لا يحبذون بيعنا ..
كان لي من الإخوة سبع غيري، ثلاث فتيات عازبات انضمت إليهن من تزوجت فازدادوا رابعة، من سيرتضى بزوجة والدها جاسوس لإسرائيل، رغم أنهن تخطين في الجمال والعلم والأدب حدوده، لكنهن الآن يرمقن بنظرات كأنهن عارضات متعة في بيوت البغاء.
جالت أمي في مخيلتي، صامتة لا تتكلم منذ الليلة الأولى لغياب زوجها عن الفراش، تواضب على واجباتها المنزلية دون أن تنطق بحرف، كم أحن إلى صوت ضحكاتها التي كانت تملأ أرجاء منزلنا قبل أن يصير حطاماً.
والدي برئ.. لا تسألني كيف علمت ذلك...
هذا ما لامسته خلال النظرة الأخيرة بيننا..!!
كنت أبتاع السجائر حينها وعيناي تناظران جيباً عسكري يبدو من هيئته أنه يحوي بعض المسلحين، تأكدت من ذلك بنزول أربعة ملثمين يعتادون بعضاً من الأسلحة ليقفوا في منتصف الطريق كأنهم ينتظرون شيئاً كنت أجهله..
مرت اللحظات سريعة وبدأ الناس بالتجمع لمعرفة سبب وجودهم في هذا المكان، بعد ما تسرب لآذان المواطنين أن عناصر حماس المسلحة تتخذ من المناطق المكتظة دروعاً بشرية..
أنا لا أكرههم... لكني لا أذكر أنه قد مضت علي منذ الحادثة لحظة لم ألعنهم فيها..
اقترب من المكان جيب آخر في مؤخرته صندوق كذاك الذي توضع فيه البهائم حين تساق لمواجهة مصيرها، أنهيت حديثي مع البائع ولملمت سجائري المبعثرة واتجهت إلى مكان تجمهر الناس بعد أن أندس الجيب القادم بينهم..
ليتني أصبت بالشلل قبل أن أذهب..!!
خمسة أشخاص خائرة قواهم كبلت أطرافهم برباط أشبه بتلك التي يقيد بها الخراف ليلة عيد الذبح، تتوشح رؤوسهم أغطية تلونت بآثار الدم والقيح الذي لفظته أفواههم خلال حفلات التعذيب التي كانت تقام على شرفهم..
هذه حفلة إعدام جماعي، سيقوم عناصر حماس بتقديم هذه القرابين لإثارة الفزع بين من يفكر في زحزحة الكراسي التي تحتوي مؤخراتهم الضخمة..
عم المكان صمت مريب بعد أن أطلقوا النار في الهواء جراء تدافع الناس الذين رفعوا هواتفهم لتصوير مظاهر الاحتفال بتقديم قرابين الفزع، رغم أنها مظاهر تكررت كثيراً منذ انقلاب حماس على السلطة الفلسطينية..
صاح أحدهم بصوت تمنيت لو أصابته لعنة حرمته ذاك الصوت القبيح، إنه الوحيد الذي لا يغطي وجهة لثام، يبدو أنه يمتلك تاريخاً مجيداً في القتل، فمعالم غضب الرب ظاهرة في تقاسيم وجهة الذي بدا لي أنه لم يعرف للابتسامة سبيل، وأسنانه التي صبغتها صفرة مقززة.
"اخلعوا اللثام عن هؤلاء الجواسيس ليشهدوا موتهم بأعينهم الوقحة"..
هذا ما قاله صاحب الوجه العبوس..
أميطت الأغطية عن عيون انقلب بياضها احمراراً كدليل على انعدام النوم، أشياء أخرى رأيتها فيهم لن أذكرها هنا بل سيذكرها عقلي ما حييت..
"أبــي"..، كلمة جاهدت كثيراً لكتمانها، بعد أن رأيته وقد تبدلت شاكلته حتى صار أشبه بالذين عذبوا على يد قريش مطلع الإسلام، يقف منتظراً شارة توحي ببدأ طقوس الحفل المريب..
صمت كل ما حولي فجأة، وكأنه لا يمنعني عنه شيء، يناظرني وأناظره، أبوح بأسئلتي ويجيبني بنظرات ثابتة يتبعها بتمتمة من شفتيه..
الطلقات النارية التي اخترقت رأسه قطعت الحديث الدائر بيننا، خر على الأرض سريعاً وكأن روحه تنتظر تلك الرصاصة لتندفع بقوة إلى مكان لا أدريه..
لم أتمالك نفسي وخرجت الكلمة التي جاهدت لإخفائها طويلاً، العواقب في نطقها كانت أسوأ مما رأيت..
"أبويا"..
كانت هذه الكلمة وقتها محرمة في كل ديانات الأرض..، أركض بدموعي الغائرة في عيني، أبحث عن يدٍ حانية تدفع عني أذى الحجارة التي بدأت تلقى تجاهي بعد نطقي بتلك الكلمة، كنت أصيح ببضع كلمات حاولت جاهداً أن أذكرها، لكنها تاهت في مشهد لا ينسى.
قتلت أنا في ذلك اليوم، لا أبي الذي أعدم دون دليل يدينه..
أبي بالفعل كان جاسوساً قذراً لإسرائيل، لكن من قتلوه هم من سيذهبون إلى الجحيم..
.......................
حسام خضرا
قاص فلسطيني